للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *

لم تتّسع العربية- على رحب آفاقها- لذلك المعنى الجليل الذي بدأ تاريخًا، وأنهض أمّة واستأنف عالمًا، فسمّته بأقرب الكلمات إلى معناه، وبما يدلّ على ظاهره الذي هو انتقال جسماني- من بلد إلى بلد- كما لم تتّسع لمعنى حركة الشمس في أفلاكها فسمّته بأضعف مظاهره وبما تدرك العين منه وقالت: سبْح جرَيَان وجاء العلم فشرح ووضّح وفسّر وتوسّع، وهذا شأن اللغة كلما عجزت عباراتها الوضعية عن تأدية معنى عظيم، وضاقت عن تحديده، أطلقت عليه كلمة، تردّدها الألسنة، ويتعارفها الناس، وتشير ولا تحدّد، وتركت للعقول التوسع في تصوير الحقيقة، وإبعاد النجعة في طلبها؛ أما الإسم الذي جُعل عنوانًا على الحقيقة فلم يعدُ أن كان منبهة، كما جعلتْه اللغة، وهذا شأنها في الكلمات ذات المدلول الواسع مثل الخير والعلم والحق والجمال، ولغات العالم في هذا الباب واحدة، لأن عقول الناس فيه واحدة أو متقاربة.

...

انتهى الحكم في ذلك المعنى الجليل إلى التاريخ بعد اللغة فسمّاه الهجرة النبوية المحمدية، وكشف بهذين الوصفين بعض السر، ونبّه العقول إلى أنها هجرة من نوع آخر، ومضى يربط سوابقها بلواحقها، ويصف، وفي كل وصف مثار للإحساس، ويقصّ، وفي كل قصّة موضع للعبرة، ويروي الوقائع، وفي كل واقعة جيش لجب من الحماس، ويحكي الأقوال، وفي كل قول مجال للحكمة، ويسلسل الحوادث، وفي كل حادثة مسرح للعقل، ويسمّي الأشخاص، وفي كل شخص وقفة للتوسم، ويستعرض الآراء، وتحت كل رأي


* نُشرت في العدد ١٤ من جريدة «البصائر»، ١٧ نوفمبر سنة ١٩٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>