للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نسق من التدبير، ثم يبني النتائج على المقدمات، ويصل الآثار بالمؤثّرات، وينتهي وقد كشف عن ذلك المعنى الجليل الذي ضاقت عنه كلمة (هجرة) أتمّ كشف، وفسّره أكمل تفسير.

لا كاشف للحقائق الكونية كالبحث، ولا شارح للأسرار الدينية كالتدبّر، ولا محلِّل للأحداث الاجتماعية كالتاريخ، أما اللغة فوظيفتها وضع العنوان ورسم الخطوط، ومن طلب من اللغة ما هو فوق ذلك فهو لاغٍ.

...

كانت الهجرة- بهذا المعنى الخاص- وما زالت، هروبًا من الباطل والمبطلين، ونجاءً بالنفس أو بالعقيدة أو بهما، فهي في خلاصتها انهزام يعتذر بالضعف إلى أن يجد القوّة، وفرار بعزيز يخاف عليه إلى حيث يؤمَن عليه، لم يخرج عن هذا المعنى حتى هجرة الأنبياء والصدّيقين كإبراهيم ولوط هاجرا من بابل إلى كنعان، ولم يرجعا إلى بابل من كنعان، أما هجرة محمد وأصحابه فكانت هجرة قوّة كاثرها الباطل المتهافت، والشِّرك المتخافت، وعاقها عن امتداد العروق، وبُسوق الأفنان في أرضها التي فيها نبتت. وجوّها الذي فيه تنفّست، وقد طاش ذلك الباطل الطيشة الكبرى، وبحث عن حتفه بظلفه، فأخرج تلك القوّة إلى حيث تزداد قوّةً ورسوخًا، وهذا من عجيب صنع الله لهذا الدين القويّ الراسخ.

من اللطائف أن القرآن ذكر قصّة الهجرة المحمدية من مكة إلى يثرب بأسلوب ليس من نسق التاريخ فسمّاها إخراجًا من الذين كفروا ولم يسمّها هجرة بصريح اللفظ، وإن سمّى الصحابة المهاجرين، ونوّه بالهجرة، وحضّ عليها، وقرنها بالإيمان، وجعلها شرطًا في الولاية فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يُذكي الحماس، ويُبقي الحنين إلى الديار متواصلًا، ويُنمّي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر، وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المغرية البديعة، هو جمع لأنصار الحق في مأرز واحد، بعد تشتّتهم لينسجموا ويستعدّوا إلى الرجعة والكرّة.

وانظر إلى بدر والحديبية وعمرة القضاء تجدها كلها تعبِّر عن اتجاه وتحويم، وعن حنين إلى مكّة تدل مظاهره على خفاياه، ثم انظر أية ثورة تثيرها في النفوس الحرّة آية: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وآية: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

إن للإخراج من الديار لشأنًا أيّ شأن في القرآن، فهو يُبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه، وهو يقرنه بالقتل تشويهًا له وتشنيعًا عليه، وإن له في نفوس الأحرار لأثرًا يتعاصى

<<  <  ج: ص:  >  >>