العلم والعمل: أحدهما الإمام عبد الرازق البيطار، والثاني الإمام المحدّث جمال الدين القاسمي، عنهما أخذ، وفي كنفهما نشأ، وعلى يدهما تخرّج. فجاء عالمًا من ذلك الطراز الذي نقرأه في التراجم، ولا نجده فيمن تقع عليه العين من هؤلاء العلماء الذين يقرأون ويحفظون وينقلون، ولكنهم لا يفقهون ... هذا العديد المتشابه الذي كأنه نُسخ من طبعة واحدة من كتاب، لا يقع التحريف في واحدة منها إلا وقع في جميعها، ولا يزيد واحد منهم في العدد إلا كما يزيد كتاب في مكتبة، لا كما يزيد فارس في كتيبة، بآية أنهم ما كثروا في الأمة إلا قلّت بهم الأمة، ولا ثقلوا في أنفسهم إلا خف وزنها في الأمم، ولا تغالوا في التعاظم إلا كان ذلك نقصًا من معاني العظمة فيها، وبآية أن علمهم لم يؤهّلهم لقيادة الأمة، فتركوا القيادة لغيرهم، وأصبحوا كأدوات التصدير التي يسبقها حرف الجر، فيدخل عليها ولا يعمل فيها، وبآية أنّ العالم في أوربا لا يعدّ عالمًا إلا إذا زاد في العلم شيئًا، أو كشف من خفيِّه شيئًا، أو جلا من غامضه شيئًا. ونفض- مع ذلك- على العلم من روح زمنه شيئًا؛ ولا عجب ... فالعلم عندهم ياقوتة في منجم، وعندنا ... لفظة في معجم، والأولى تستخرج بالبحث والإلحاح، والثانية تستخرج بمعرفة الاصطلاح، والأولى حظ المجتهد العامل، والثانية حظ المقلّد الخامل.
[بدء معرفتي به]
خرجتُ من المدينة- فيمن خرج- إلى دمشق في أخريات سنة ست عشرة ميلادية، وكنت أتمنى لو أن دواعي ذلك الخروج كانت تقدمت ببضع سنوات لأدرك الإمامين اللذين كانت لهما في نفسي مكانة، وهما عبد الرزّاق البيطار وجمال الدين القاسمي. وكنت- وأنا بالمدينة- قرأتُ للقاسمي عدة كتب عرفت منها قيمته ومنزلته، وقرأت عن البيطار وسمعتُ ما دلّني عليه وأدناني منه.
وفي أول اندلاع الثورة الشريفية قدم المدينة من دمشق جندي شاب من آل المارديني، وتعرّف إليّ في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وتردّد على دروسي مرات في الحرم النبوي، فانعقدت بيننا ألفة روحية لا تأتي بمثلها الأسباب، وذلك الشاب شقيق الاستاذ جودت المارديني، ولأسرة المارديني بدمشق صلة متينة بأسرتَي القاسمي والبيطار. فكنت أسأله عما يهمُّني من دمشق وأحوالها وعلمائها، وعن القاسمي والبيطار. كأن هاتفًا من وراء الغيب القى إليَّ أنني سأرحل إلى دمشق. فأخبرني ذلك الشاب أن الله تعالى أبقى من بيت البيطار وارثًا لعلم الإمامين ومشربهما في الإصلاح، هو الأستاذ محمد بهجة البيطار، وأن له من الشباب المحصل صحبًا قليلًا عددهم، يوافونه على الفكرة، ويلتقون معه على المبدإ، وأنه هو إمامهم ومرجعهم، فشوَّقني حديث الشاب إلى الاستاذ، وعلمتُ أن الروحين تعارفتا، فائتلفتا، ولم يبق إلا تعارف الأجساد.