للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المرحلة الخامسة]

____

أعمالي في الجزائر، بعد رجوعي من الحجاز والشام وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعمالي فيها:

كان من تدابير الأقدار الإلهية للجزائر، ومن مخبّآت الغيوب لها أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعة أشهر أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشمال الافريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر.

وبيت ابن باديس في قسنطينة بيت عريق في السؤدد والعلم، ينتهي نسبه في سلسلة كعمود الصبح إلى المعزّ بن باديس، مؤسّس الدولة الصنهاجية الأولى التي خلفت الأغالبة على مملكة القيروان، ومدّت ظلّها على قسنطينة ومقاطعتها حينًا من الدهر، ومع تقارب بلدينا بحيث لا تزيد المسافة بيننا على مائة وخمسين كيلومترًا، ومع أننا لِدَتانِ في السن يكبرني الشيخ بنحو سنة وبضعة أشهر، رغم ذلك كله، فإننا لم نجتمع قبل الهجرة إلى المدينة، ولم نتعارف إلا بالسماع، لأنني كنت عاكفًا في بيت والدي على التعلّم، ثم على التعليم، وهو كان يأخذ العلم عن علماء قسنطينة متبعًا لتقاليد البيت، لا يكاد يخرج من قسنطينة، ثم بعد بلوغ الرشد ارتحل إلى تونس، فأتمّ في جامع الزيتونة تحصيل علومها.

كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة.

كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة ١٩١٣ ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة ١٩٣١.

ورجع الشيخ إلى الجزائر من سنته تلك بعد أن أقنعته بأني لاحق به بعد أن أقنع والدي أن رجوعي إلى الجزائر يترتّب عليه إحياء للدين والعربية، وقمع للابتداع والضلال، وإنكاء للاستعمار الفرنسي، وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أدخل منه على نفس والدي ليسمح لي بالرجوع إلى الجزائر.

<<  <  ج: ص:  >  >>