للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من نفحات الشرق *

داوِ الكلوم يا شرق، فما زلنا كلَّما استشفينا بك نجد الراحة والعافية، ونظفر بالأدوية الشافية؛ وما زلنا كلما استنشقنا ريحًا استنشيْنا رَندك وعرارك، وكلّما استورينا زندًا استمجدنا مَرْخَك وعَفَارك، وما زالت أفئدتنا تهوي إليك فتصافحها حرارة الإيمان، وبرد اليقين، ورَوْح الأمان، وما زلت تُتحفنا مع كل بازغة منك بالنور اللائح، والشعاع الهادي، وما زال يتبلج علينا من سناك في كل داجية فجر، وتسري إلينا من صباك في كل غماء نفحات منعشة.

...

وافنا يا شرق مع كل نسمة منك تهبّ، ومع كل بريد من قِبلك يخبّ، بأثارة مما أبقت الأيام فيك من آثار السماء، فقد انقطعت الصلة- في غيرك- بينها وبين الأرض، منذ طمعت أوربا في استعمار كواكبها، وتعفيرها بأوضار مادّيتها، وهل تنقل أوربا إلى السماء يوم تستعمرها إلا مخامرها ومواخيرها وآثامها وفواحشها؟ وكَذَبَتْهم الكذوب، فإن الصعود إلى السماء خيال يسري في ظلّ حقيقة، وباطل يجري في عنان حق، وحلم من أحلام العلم، أخطأت تعبيره علماء المادّة، وحقّقه محمد مرّة واحدة، في تاريخ البشرية، ووضّح التفكير الإسلامي تفسيره في تلك المرحلة الأولى بالعروج الروحي إلى الملإ الأعلى، والجوَلان الفكري في ملكوت السماوات، فلولا هداية الإسلام إلى اجتلاء أسرار السماء، وتوجيه العقول إلى فتح مغاليقه، وربطه بالأرض بواسطة الروح، لما لاح هذا الخيال في ذهن مفكر، ولا طاف طائفه بعقل عاقل، وكذب الطرفان، وصدقت الواسطة، الأوّلون قادهم


* نشرت في العدد ١٦٤ من جريدة «البصائر»، ٢٣ جويلية سنة ١٩٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>