للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلامي بعض المخالفة لمعناها الافرنجي فعذري أني لا أعلم مدى ما يراد منها في ذلك الاصطلاح، وإنما أنبهكم إلى أن معنى الكلمة في الذوق العربي يرمي إلى أن أساس الثقافة هو حسن التربية وصحة الإدراك والتقدير للأشياء، وسلامة التفكير والاستنتاج العقلي واستقامة السلوك في معاملة الناس، ويرمي كذلك إلى اعتبار الاخلاق الفاضلة قبل كثرة المعلومات، ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي يختلف فيها النظران الشرقي والأوروباوي.

[منزلة المثقفين في الأمم الحية]

والمثقفون في الأمم الحية هم خيارها وسادتها وقادتها وحرّاس عزها ومجدها. تقوم الأمة نحوهم بواجب الاعتبار والتقدير، ويقومون هم لها بواجب القيادة والتدبير، وما زالت عامة الأمم، من أول التاريخ تابعة لعلمائها وأهل الرأي والبصيرة فيها، تحتاج إليهم في أيام الأمن وفي أيام الخوف. تحتاج إليهم في أيام الأمن لينهجوا لها سبيل السعادة في الحياة، ويغذونها من علمهم وآراثهم بما يحملها على الاستقامة والاعتدال، وتحتاج إليهم في أيام الخوف ليحلوا لها المشكلات المعقدة ويخرجوها من المضائق محفوظة الشرف والمصلحة.

والمثقفون هم حفظة التوازن في الأمم وهم القومة على الحدود أن تهدم وعلى الحرمات أن تنتهك وعلى الأخلاق أن تزيغ، وهم الميزان لمعرفة كل إنسان حدّ نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، ويراهم الطاغي المتجبر عيونًا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد. إذا كانوا متبوعين فمن حق غيرهم أن يكون تابعًا، أو كانوا في المرتبة الأولى فمن حق غيرهم أن يكون في الثانية، ولا أضر على الأمم من الفوضى في الأخلاق والفوضى في مراتب الناس، ولكن هل عندنا مثقفون بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؟ وما دام حديثنا في دائرة محدودة وهي الأمة الجزائرية بصفتها الحاضرة، وتفصيلنا للقول إنما هو على مقدارها فلنقل مخلصين: هل فينا مثقفون بالمعنى الصحيح الكامل لهذه الكلمة؟ ولنكن صرحاء إلى أبعد حدّ.

الحق أنه يوجد في الأمة الجزائرية اليوم مثقفون على نسبة حالها وعلى حسب حظها من الاقبال على العلم وعلى مقدار الوسائل التي تهيأت لها في ذلك- ولكن المثقفين منا قليل جدًا لا في الكمّ والعدد ولا في الكيف والحالة، ولا نطمع في زيادة عدد المثقفين إلّا إذا زاد شعور الأمة بضرورة التثقيف، وتهيأت أسبابه أكثر مما هي متهيئة الآن- ولا نطمع في زيادة الكيفية إلّا إذا توحدت طرائق التثقيف وجرت على ما يوافق روح الأمة في دينها وعقائدها الصحيحة وتاريخها ولغتها وجميع مقوماتها، واتحدت الأهواء المتعاكسة واتفقت المشارب المختلفة في الأمة وصحت نظرتها للحياة وصح اختيارها لطرقها المناسبة لوجودها.

ولكن آفة الآفات وعلة العلل في ثقافتنا على ما هي عليه من النقص في العدد وفي الحالة أن عندنا ثقافتين مختلفتين تتجاذبان الأمة من أمام ومن خلف، إحداهما ثقافة إسلامية أساسها

<<  <  ج: ص:  >  >>