طاف الإمام أبو إسحاق الأسفرائيني في بدء انحطاط الإسلام جبل لبنان وكان عامرًا بالعباد المنقطعين عن الدنيا، فقال يخاطبهم: يا أكلة الحشيش تهربون ها هنا وتتركون أمة محمد تعبث بدينها المبتدعة، وان اقتصاره على ذكر الدين يدل على أن دنيا الأمة كانت محفوظة، ولو بعث في مثل زماننا لَأضَافَ الدنيا إلى الدّين فقد ضاع كلاهما بخمول المثقفين.
أيها الاخوان:
هذه مقدمة كالمفتاح للكلام في المقصود وهي متصلة به معدودة من تمهيداته مشيرة إلى كثير من أصوله مرشدة إلى ما فيه الأسوة من المحدثين بالقدماء، وإذا طالت فعذري إليكم أن المرتجل لا يستطيع ضبط لسانه كما يستطيع الكاتب ضبط قلمه فلنحول هذا اللسان عن مجراه، ولنحاول حمله على الجري في المقصود ومن حقكم على هذا اللسان أن يَنْطِق بالحق ولو على نفسه: واذا كان الحق يغضب أقوامًا فحسبه أن يرضي الحقيقة، وما وقفت بينكم موقف القائل ووقفتم في موقف المستمعين إلّا وقد أخذ الحق علينا عهدًا أن يكون الخطاب من الضمير للضمير وان لا نؤثر العواطف على العقول وان لا نتقارض الثناء المكذوب، وان لا نخون الفضيلة في اسمها، إننا مرضى ومن بلاء المريض رفق الطبيب به، ان رفق الطبيب خيانة لفنه وقدح في أمانته وزيادة في البلاء على مريضه، وما خير رفق ساعة يتجرع المريض بسببه آلام السنين.
أعيد الموضوع على أذهانكم وهو كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة؟ كلمة المثقف آتية من تثقيف الرمح وهو تقويم قناته بغمزها وتشذيب زوائدها الناتئة وإزالة الاعوجاج من كعوبها، ويقولون للغلام المتدرب على اللعب بالسلاح وعلى الرمي بالحراب والتلاعب بالرماح، غلام مثاقف وهو وصف قريب الصلة بكلمة التثقيف، ولم تكن العرب تستعمل كلمة مثقف بالمعنى الذي نعرفه الآن. وإنما كانوا يقولون في مثله رجل لقن وزكن ويقولون في معنى الثقافة عندنا اللقانة والزكانة، ولما جاءت نهضتنا الحاضرة اختارت للدلالة على هذا المعنى كلمة الثقافة وجعلتها ترجمة لكلمة افرنجية.
فالمثقف هو الرجل المُهَذّب المستنير الفكر المجوهر العقل المستقل الفكر في الحكم على الأشياء، الجاري في تفكيره على قواعد المنطق لا على أسس التخريف، المطلع على ما يمكن من شؤون العالم وتاريخه، الملم بجانب من معارف عصره.
وقد تتسع الثقافة بوفرة الحظ من الأخلاق وكثرة المعلومات وقد تضيق بقلتهما وقد تنقسم باعتبارات جنسية أو لغوية أو دينية. فيقال: الثقافة العربية أو الفرنسية ويقال الثقافة الإسلامية أو المسيحية مثلًا، وإني محدثكم عنها على حسب ما أتذوقه من روح الكلمة في مدلولها العربي وعلى ما أعلم من تطبيقها في العرف الشرقي الراقي في نهضته الفكرية الحالية، فإن رأيتم في