للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متجنبة للشبهات وطائفة متصوفة وطائفة متقشفة وطائفة متمزهدة وطائفة متعبدة وطائفة تسكن الخلوات وطائفة تعمر حلق الذكر. كان المأمون في عصره قائمًا بعز الخلافة وفي عزها عزّ الإسلام وكانت يده تفيض بالعطاء للناقلين والمترجمين لثمرات العقل البشري فماذا يضير الإسلام في زمنه أن يكون في الأمة طائفة آثرت الخمول والانزواء والتستر والانكماش؟ وماذا يضر السفينة إذا كان ربانها ماهرًا ساهرًا أن ينام جميع الركاب؟

وكان أحمد بن حنبل وطبقته في عصرهم يحملون الشريعة ويقومون بتحقيقها وفلسفتها ونشرها، وكان البُخاري وطبقته يقومون بالرحلة لجمعها وتحريرها وتصفيتها.

وكان طاهر بن الحسين وأمثاله من القواد يقومون بحماية الثغور وتنظيم القوّة، وكان الحسن بن سهل وأمثاله يقومون بتدبير المصالح العامة وجباية الأموال، وكان أبو يوسف وأحمد بن أبي دؤاد يقومون بتنفيذ القضاء وإقامة الحدود.

وكان ثمامة بن أشرس وأضرابه يقومون ببيت الحكمة في الأمة وتكوين الفضائل.

وكان الأصمعي ويونس وأبو عبيدة وأضرابهم يقومون بتدوين اللغة وحفظها، وكان الخليل وسيبويه وابن جني وأمثالهم يقومون بتفريعها وتخطيط مقاييسها، وكان الجاحظ وأضرابه يقومون بجلاء البيان العربي وترويضه للمعارف العقلية والنقلية، وكان النظّام وواصل وبشر بن المعتمر وأضرابهم يقومون بتوسيع المدارك العقلية وتلقيحها بلقاح المنصف وتربيتها على أفانين الجدل والحجاج والاستدلال. وكان الآلاف من غيرهم يقومون بشعب الحياة الأخر ويعمرون ميادينها المتشعبة؛ فهل يضر الأمة أن تختار طائفة منها ما تستحقه من خمول وانكماش وغيرهما مما هي أمراض المثقفين اليوم من هذه الأمة؟

على أن الواقع الذي يجهله الناس وأنا أعرّفكم به لأنني أعرفكم به، هو أن تلك الطوائف التي شذت واعتزلت الحياة العامة في أيام عز الإسلام ليست إلا طوائف لا تستحق الحياة وأنها لم تجد في ميدان الحياة متسعًا لأن تلك الميادين كانت عامرة بالأصلح، فتلك الطوائف لم تعتزل الحياة عن طوع واختيار بل عن قهر واضطرار هي طوائف اعتزلتها الحياة وليست هي التي اعتزلت الحياة، هي طوائف منفية من الحياة لا منتفية منها.

يوجد رجل من مشائخ الطرق الدجالين في عصرنا هذا ولكنه حاذق في معاريض الكلام جاءه مريد من مريديه فقال له: إني طلقت الدنيا لأنقطع إليك وإلى خدمتك، فقال له الشيخ: وماذا طلقت من الدنيا هل لك غنم؟ قال لا، قال هل لك تجارة هجرتها لأجلي؟ قال لا، قال: هل لك فلاحة تركتها لأجلي؟ قال لا، قال هل لك زوجة وأولاد؟ قال لا، قال إذن فالدنيا هي التي طلقتك وأنت المطلق لا هي. وكذلك حال تلك الطوائف التي ورثنا من آثارها السيئة هذا الخمول وهذا الانكماش وهذا الجهل بحقيقة الحياة، وبئس الميراث وبئس الوارثون.

<<  <  ج: ص:  >  >>