للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في كتابه ريحانة الكتاب، ومعظم رسائل فحول كتاب الأندلس كابن شهيد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كتاب المشرق كالصابي والبديع، مع حفظ المعلقات والمفضليات وشعر المتنبي كله وكثير من شعر الرضي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري وأبي نواس، كما استظهرت كثيرًا من شعر الثلاثة جرير والأخطل والفرزدق، وحفظت كثيرًا من كتب اللغة كاملة كالإصلاح والفصيح، ومن كتب الأدب كالكامل والبيان وأدب الكاتب، ولقد حفظت وأنا في تلك السن أسماء الرجال الذين ترجم لهم نفح الطيب وأخبارهم وكثيرًا من أشعارهم، إذ كان كتاب نفح الطيب- طبعة بولاق- هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عينيّ على الكتب، وما زلتُ أذكر إلى الآن مواقع الكلمات من الصفحات وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة، وكنتُ أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد مما يحقق ما نقرأه عن سلفنا من غرائب الحفظ. وكان عمّي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت فيطرب لصحة فهمي، فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه- وكان وسطًا- أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرني وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بذلك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعاني الشعرية، ثم يأمرني بالنوم رحمه الله.

مات عمّي سنة ١٩٠٣ ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه، وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرني بأن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصًا على نفعهم، ففعلت ووفّق الله وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدّر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخًا في سن الصبا، وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشر آفة يُصاب بها مثلي وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس، فكنت لا أرى نفسي تقصر عن غاية حفّاظ اللغة وغريبها وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي مرح كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة.

[رحلتي إلى الشرق]

رحلت من الجزائر إلى الحجاز سنة ١٩١١ وعمري إحدى وعشرون سنة ملتحقًا بوالدي الذي اتخذ المدينة قرارًا له وأمرني بالالتحاق به، فمررت على القاهرة وأقمت بها ثلاثة أشهر، طفت فيها بحلق الدروس في الأزهر، وزرت شوقي الذي كنت راوية لشعره، وحافظ إبراهيم في مقهى من مقاهي القاهرة، والشيخ رشيد رضا في دار الدعوة والإرشاد، وجماعة

<<  <  ج: ص:  >  >>