للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لبقي المصلّون كلّهم مرابطين ينتظرونني، وكان الأمر في الجمعة الثانية أشدّ، وكان في الثالثة أشنع لكثرة المصلّين في جامع الميمن، وكان صوتي بالإنكار في كلّ مرّة أعلى، ولكنه كان أضيع، وفي المرّة الأخيرة وجدت نفسي في شبه حلقة مفرغة من ورائها حلقات تزدحم وتتضاغط بحيث ما كدت أصل إلى الشارع حيث السيارة إلا والمؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، ومن العجيب أن بعض العلماء- وكان يسايرني في تلك الضغطة- أنكر عليّ هذا الإنكار، وقال لي إنهم يحبّونكم، فهم يتبرّكون بكم، وأعجب منه أن مما ألهمته في تلك المحاضرة تقريع العلماء على تقصيرهم في التربية الاجتماعية، وسكوتهم على المنكرات حتى تعظم، وتأوّلهم للصغائر حتى تكبر، وقد فهمها هذا الأخ العالم مرّتين نصًّا وترجمة، ولما خرجنا ونجونا قلت لذلك الأخ: إن النفس لأمارة بالسوء وإن من مداخل الشيطان إلى النفس ما كنا فيه مذ الآن، إنه يصوّره بألف صورة ويزيّنه بألف معنى من معانيه، وافتتان الناس بالمرء يفضي إلى افتتانه بنفسه، ومن هنا أنكر ديننا الغلو حتى في الحب والبغض، ولو تكرّرت عليّ هذه الحالة مرّات لزالت عني مشقّتها بالارتياض والتعوّد، ولم يبق لي الشيطان منها إلا جوانبها الحبيبة إلى النفس، وهي أنها طاعة وانقياد وخضوع تلد الزعامة فالإمارة، فإن أنكرتها عجزًا أو تعفّفًا قفز بي إلى النبوّة فما فوقها، ومن عادة الشيطان أن يرتفع بعدوّه الإنسان إلى أعلى، ليكون الهبوط بقدر الصعود، وقلت لصاحبي: إن الصغائر في العامة تستحيل كبائر بالمبالغة فيها وبالسكوت عليها من العلماء وأهل الرأي.

...

____

[الزيارات]

____

زرت فخامة الحاكم العام لدولة باكستان السيد غلام محمد في مقرّه الرسمي، يوم ٣١ مارس سنة ١٩٥٢ على الساعة الثانية عشرة والدقيقة العشرين، وكان المترجم هذه المرّة الأستاذ محمود أبو السعود من نوابغ الاختصاصيين المصريين في علوم الاقتصاد، ويحمل عدة شهادات عالية في علوم أخرى وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي، وفهم دقيق له، وهو يتولّى منصب مستشار بنك الدولة الباكستانية، وكانت الترجمة بيني وبين الحاكم العام بالإنكليزية، وفهمت من أول الحديث أنه مشغول الخاطر بالدستور الباكستاني الذي لم يتحرّر ولم يتقرّر إلى الآن، مع اشتغال المجلس التأسيسي به عدة سنوات، وما زالت الدولة جارية على بقايا القوانين الإنكليزية، والرأي العام ينادي بدستور إسلامي كامل تنبني عليه أحكام

<<  <  ج: ص:  >  >>