للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المساكن حركة حكومية، وهو توزيع معقول، ولكن حركة المساجد كانت على غير بصيرة، ودخلتها أغراض بعض العلماء الانتفاعيين فزادتها بعدًا عن حكمة المساجد، فكل واحد من هؤلاء يسعى لبناء مسجد يصلّي فيه هو وأتباعه، ويزين لهؤلاء الأتباع أن لا يصلوا في مسجد آخر، ولا خلف إمام آخر، وقد رأيت مسجدين بينهما عرض شارع تقريبًا، وكل واحد منهما مخصوص بطائفة، وكفى بهذا مفرقًا لكلمة المسلمين، وقد أنكرت عليهم هذا في بعض محاضراتي إنكارًا عنيفًا، وقلت لهم إن المساجد لله، وإنها جامعة لا مفرّقة، وإنه لا يحسن تعدّدها إلا تعدّد المحلّات وتباعدها، لا تعدّد العلماء واختلاف نزعاتهم، وإنه ما شتّت شمل المسلمين إلا ملوك الطوائف، ومساجد الطوائف.

هذه القضية من أكبر أسباب تشتيت المسلمين، ويزيد في شناعتها وقوعها في أمّة مقبلة على حياة جديدة ألزم شيء فيها جمع الكلمة، وسكوت علماء الدين عليها يعدّ جناية، فضلًا عن تشجيعهم لها، وهي بهذا الوضع مخالفة ومناقضة لحكمة بناء المساجد في الإسلام، ومباينة لذلك الأصل القطعي فيه، وهو أن المساجد لله.

الثانية: شاعت بين عامة مسلمي الهند من قديم الزمان عادة في تعظيم العلماء لم تقف مع طول الزمان عند الحدّ المشروع، بل جاوزت الحدّ المشروع والحدّ المعقول، والمبالغة في كل شيء مُفسدة لحكمته، مُذهبة لجماله، ونحن لا ننكر أصل التعظيم، لأنه مشروع ولأنه من البواعث على التعليم ولأنه شهادة من النقص للكمال، ولكننا ننكر المبالغة فيه، لعلمنا بأثرها السيّئ في تربية الأمّة، فهي إذا مدّت مدّها، وجاوزت حدّها، تنقلب في العامة ذلّا ومهانة وشعورًا راسخًا بالنقص حتى في الدنيويات المحضة، وتنقلب في غير الموفق من العلماء تعظّمًا وجبرية قد ينتهيان إلى التألّه، وعندنا أن السرّ في ظهور الشذوذات الغالية في الهند، واستسهال القفز إلى الحظائر المحظورة، يرجع إلى تغلغل هذه العادة في الأوساط العامية، فهي تنقلهم من المبالغة في التعظيم إلى سرعة التصديق بالمحال، وإلى قبول الدعاوى من المتنبّئين والمتألّهين، ولا يطول عمر هذه الدعاوى الشاذّة إلا بين الجماهير التي انطبعت على الغلوّ في التعظيم، فقد كان الزوال أسرع شيء إلى نحلة صالح بن طريف في برابرة المغرب، وإلى نحلة كرميته (أحمر العين) في الأحساء، وإلى نحلة الحاكم في مصر، وإلى نحلة المقنع الخراساني في الجبال، وما فيهن واحدة عاشت بعد موت صاحبها، إلا فيمن يطمع أن يكون مثل صاحبها، بل كانت تلك النحل هي سبب هلاك أصحابها.

أذكرني بمعنى هذا الكلام أنني كنت كلما خطبت في جمعة وهممت بالانصراف بعد الصلاة، اعترضني المصلّون من أول خطوة يقبّلون يدي ويضعونها على جباههم وأقفائهم ومنهم من يتمسّح بثيابي، ولقد صحت في الناس في أول مرّة، وقلت: يا قوم، هذا منكر، فلما لما يكفّوا، قلت: هذا حرام، فلم يزدهم ذلك إلا تهافتًا عليّ، ولو بقيت في المسجد

<<  <  ج: ص:  >  >>