ومن فروع هذا المزعم عند العرب أنهم زعموا أن السمكة قالت للضب: وردًا يا ضب. فقال الضب:
أصبح قلبي صَردَا ... لا يشتهي أن يَرِدَا
إلا عَرادًا عرِدَا ... وصِلِيّانًا بَرِدَا
فهذا هو رجز الضب وهو مبني على اعتبار صحيح، وهو أن الضب لا يشرب الماء، ولعلّه يكتفي عنه برطوبة الهواء الذي يستنشقه والعشب الذي يأكله، كما قالوا في الظباء التي تجتزي عن الماء بما تأكله من حشيش رطب، ولذلك سمّى العرب هذه الظباء جوازي واحدتها جازية. ولهذه الكلمة ذكر مستفيض في كلامهم، وبها سمّيت الجازية المرأة التي بنيت عليها قصة بني هلال أو بطلة الرواية.
((فصل))
ومن مزاعم العرب في الضب أنه أول من دلّ على نفسه، إذ كانت الحيوانات كلّها تتكلّم، فزعموا أن صائدًا مرّ بوادٍ فيه ضب فلم يتوجّه إلى صيده، فخاطبه الضب بقوله: انك لو ذقت الكُشى بالأكباد .. لما تركت الضب يعدو بالواد: والكشى جمع كشية وهي شحمة مستطيلة في الضب يقول آكله إنه لا ألذ منها، ومعنى قوله- لو ذقت الكشى بالأكباد- لو أكلتها ملفوفة بالأكباد أو ممزوجة بها فهو- زيادة عن كونه دلّ على نفسه- أرشد إلى كيفية ونوع من أنواع الملفوف- وتذكّرنا كلمة الكشى بكلمة للزمخشري من كَلِمَهِ النوافي وهي: ما الأعراب بالكشا- أولع من القضاة بالرشا. وأنا أرى أنّ دعوى العرب لدلالة الضب على نفسه أو تزيينه للناس أكله بطيب شحمه، أرى هذه الدعوى ترجمة غامضة لحقيقة كونية تكلّم عنها الحكماء الباحثون في أسرار الكون والمستشرفون لحكمة الخالق في مخلوقاته، وهي أن الحكمة العليا في ألوان الفواكه الزاهية ذات التّلاوين والتهاويل كالخوخ والإجاص والتفّاح وغيرها في مقاديرها وأشكالها هي الدعاية إلى أكلها بمجرّد النظر إليها من الإنسان والحيوان، فإن الرؤية بالعين تسبق الذوق باللسان وتبين الطعم واللذاذة. فتلك الألوان والأشكال هي دعايات تستهوي من فيه قابلية الأكل وتدعوه إلى التجربة، فإذا تمّت التجربة صارت عادة في العقلاء وغريزة فيمن سواهم، ولولا هذه الدعاوى المستهوية في الألوان والتهاويل لما أقدم عاقل ولا غيره على تجربة شيء لم يعرفه لاحتمال أن يكون فيه داؤه لا غذاؤه، والحي إذا عرض له خيال الموت ذابت كل الاعتبارات في نفسه، ويعد هؤلاء العلماء والحكماء وجود هذا المعنى في الفواكه بمثابة المحافظة على بقاء نوعها وتسلسل نسلها، وهي السنة المعروفة في عالم الحيوان بنظام التوالد النوعي والتلاقح