للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنا على يأس من لقاء الجماعة في تلك الليلة، فما راعني إلا وهم مجتمعون في فناء الفندق ينتظرونني، لا يبرحونه حتى إلى المدخل الخارجي لأن ذلك يعدّ تجوّلًا ممنوعًا، وعرفت الأستاذ الصديق سعدي من أول نظرة وقد مرّت على افتراقنا عشرون سنة، وقد بدأت السن تأخذ من معارف وجهه، ولا تسل عما غمرني من السرور لرؤية الأستاذ الصديق، وعما داخالني من الأنس للاجتماع بالإخوان، وقد علموا أن ركاب الطائرات لا بدّ أن يقدموا إلى هذا الفندق فرابطوا فيه، من أول الليل، وأبلغوني تحية صاحب السعادة عبد الرحمن عزام باشا، وصاحب المعالي الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وأنهما كانا عازمين على اقتبالي في المطار لو كانت الطائرة تصل نهارًا، ولكن رجال الأمن كانوا متشدّدين في تطبيق قانون منع التجوّل، وقضينا بقية الليلة في بهو الفندق في سمر وحديث إلى الصباح، فنقلوني إلى فندق جزيرة بالاس حيث اتفق مكتب الجامعة ...

- ٢ * -

انتقلنا إلى فندق "جزيرة بالاس" لأن مكتب الجامعة العربية ومكتب جمعية العلماء بالقاهرة اتفقا على نزولي فيه، وحجزا لي فيه غرفة للنوم ومكتبًا للاستقبال فيه جهاز تيليفوني، وكان ذلك في الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء حادي عشر مارس، وما جاءت الساعة الثامنة حتى كان أول زائر صاحب المعالي الدكتور محمّد صلاح الدين باشا، وعبد الرحمن عزام باشا، وكأنما كانا على ميعاد، وذكريات اجتماعي بهما في باريس لم تزل ندية رفافة، تَفغَم وتفعم، وكأن تبكيرهما بهذه الزيارة كان وصلًا لذلك وبقية من معانيه، جزاهما الله عن الوفاء خيرًا. ثم تواترت زيارة الإخوان فملكت الدقائق والثواني، وآنست نفسًا طال شوقها إلى مثل هذه المجالس وهؤلاء الإخوان وهذه الأحاديث وأنست الراحة والنوم مع شدة الحاجة إليهما، وما الأسير العاني اشتبهت أيامه، وطال في الأغلال مقامه، حتى إذا استيأس جاءته البشرى بالسراح، وحرية البراح، ولا الغائب المنقطع، تلقّته الأقطار بخيبة الأوطار، فلجّ في ركوب الأخطار، "ليبلغ عذرًا أو ينال رغيبة" ثم فاجأته الأقدار بالرجوع إلى الأهل والدار، مقضي المآرب، مهنأ المشارب، بأطيب نفسًا، ولا أقرّ عينًا، ولا أكثر ابتهاجًا مني في ذلك الأسبوع الذي أقمته بالقاهرة، وكأنها أرحام تعاطفت، وأرواح تعارفت فتآلفت،


* «البصائر»، العدد ١٩٧، السنة الخامسة من السلسلة الثانية، ٢٨ جويليه ١٩٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>