للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فارتفعت الكلف، وسقط التحفظ والاحتراز، ولا أنسى- ما حييت- فضل أولئك الإخوان الذين زاروا وتردّدوا، ولم تروهم الشربة الواحدة فعدّدوا، وما منهم إلا عالم، أو نابه، أو كاتب، أو صحافي، أو ذو مكانة اجتماعية، أو تلميذ، ولله تلك الفئة المهاجرة للعلم من أبناء الجزائر، فكأنهم- والله- أبناء بررة، يلوذون مني بأب طال غيابه عليهم، ثم تيسّر إيابه إليهم ... لكم الله أيها الأبناء، وعليّ نذر لله أن أتعب لراحتكم، وأن أميط الأذى عن ساحتكم، ما عشت وانتعشت، وما أخلصتم للعلم وانقطعتم له ونويتم به نفع الجزائر ... إن الجزائر أمّكم البرة، وهي تعلّق عليكم الآمال، وترجوكم للأعمال لا للأقوال، ولستم بنيها إن هجرتموها، ولستم لها إن رجعتم إليها بالفارغ والسفساف، ولستم ورّاثها إن لم تردّوا عليها ميزاتها وأنا أعيذكم بالجزائر وهي الأم، وبالعلم وهو الأَمّ، وبالأطلس الأشم، وبابن بادبس وهو المثال الأتمّ، أن ترجعوا إليها أبعاض علماء، وأجزاء زعماء، أعلاها ثلث وربع، وأدناها سدس وسبع، فما أكثر هؤلاء فيها، ولكنهم يمسكون عليها الذماء، ولا يملكون لها النماء، فهي في حاجة إلى من يرود ويعود، فيقود ويذود، ونحن قد شرعنا لكم المشارع، ونهجنا لكل صالحة طريقًا، وصدمنا الباطل حتى تضعضع، ووضعنا لكم الأساس على صخرة، وبدأنا لتتمّموا، وليت شعري ... إذا خلت أمكنتنا منا فمن لها غيركم؟

...

لا تتسع هذه المقالات لذكر أسماء الإخوان الذين زاروني واحتفوا بي، وإن كانت مدوّنة في مذكراتي، ولا تتسع كذلك لذكر أعمالي ومقابلاتي وزياراتي للأمكنة والرجال، فإن ذلك مرجأ إلى الكتابة عن "مرحلة مصر" بعد رجوعي إليها إن شاء الله، وقد كفاني بعض المؤونة مكتب الجمعية بالقاهرة، ونشر المجملات في حينها على قرّاء «البصائر»، وإن قصر في السرد ونسي بعض الأسماء، ولكني ما زلت مملوء النفس سرورًا بشيئين: الأول درس ألقيته في المركز العام للإخوان المسلمين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الآية. ولا قيمة للدرس في ذاته، وإنما قيمته بحاضريه وبمكانه، وبالجمعية التي دعت إليه، وبمعنى آخر أسمى من ذلك كله وهو أنه وصل بين جمعيتين تعملان لإحياء الإسلام الصحيح بإحياء روحانيته، والثاني زيارتي لجامعة فؤاد الأول، واجتماعي بمديرها سعادة عبد الوهاب مورو باشا، وبعض أساتذتها الكرام، وزيارتي لكلية الآداب، وللمكتبة الضخمة، ولقاعات المطالعة والبحث، ولقاعة المحاضرات، فأشهد مخلصًا أنني خرجت مرفوع الرأس تيهًا، مملوء النفس فخرًا، مفعم الجوانح إعجابًا بهذه الجامعة التي هي مفخرة الشرق وحجّته على الغرب، وأشهد مخلصًا لقد أحسست بعد الخروج كأن وجودي تضاعف مليون مرّة بوجود هذه الجامعة ومعذرة لمن يتّهمني بالمبالغة، فأنا من قوم يشهدون كل يوم

<<  <  ج: ص:  >  >>