للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إسلامية في الشخصيات والماليات والجنائيات، ومنها إقامة الحدود، ينادون بهذا ويتصوّرونه تصوّرًا مجملًا، والفقهاء منهم وعلماء الدين يتشدّدون في هذا ويشرحونه شروحًا نظرية تختلف باختلاف النزعات المذهبية من تقليد واستدلال، وهم يرون أن الرجوع إلى الأحكام الإسلامية هو الفرق بين العهدين، وما دامت الأحكام إنكليزية فلا استقلال، وهو كلام حق، ورأي سديد لو لم يكن مستندًا على النظريات، ونحن نقول ما هو أبلغ من هذا، نقول ما دام التعليم والكتابة في الرسميات بالإنكليزية فلا استقلال، فكيف بالدساتير والقوانين؟ والمثقفون يريدونه دستورًا مدنيًّا مقتبسًا من حالة الأمّة وتقاليدها، محقّقًا لرغائبها وضروراتها، ولا يتحمّسون فيما بدا لي للاستعارة من الدساتير الأجنبية كما فعل المصريون والأتراك الكماليون، ولا أدري هل هم مجمعون على هذا الرأي، لأنه لم يتح لي أن أحادث كل من لقيت منهم في هذا الباب، فإن كانوا مجمعين على هذا فهو من محامدهم، وسداد تفكيرهم، والذي عرفته- على الجملة- أن هذه الطبقة المثقّفة في باكستان ما زالت على شيء من التماسك مع الأجيال السابقة في الخصائص الموروثة، وما زالت على بقية من احترام الدين، فهي لذلك لا تجرؤ على مناهضة الرأي العام الإسلامي، ومما يختلفون به عن مثقّفينا أو مثقّفي اللغة الفرنسية أن روحهم إسلامية، وأنهم مطّلعون على أصول الإسلام وتاريخه وأبطاله، ولا سيّما السيرة النبوية والصحابة وآثارهم وخصائصهم، والحكومة حائرة بين الرأي العام والعلماء وبين ما يقتضيه الزمان من تساهل، والمجلس التأسيسي سائر بالقضية في تؤدة وبطء، ولعل من معاذير الحكومة في التروّي كثرة المذاهب الإسلامية، وأن أهل كل مذهب يريدون صوغ الدستور والقوانين التي تنبني على قواعده على قالب مذهبهم، والمسألة بسيطة إذا حكّم أهل المذاهب كتاب الله والمتّفق عليه من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعقّدة من جهة الواقع وهو أن مقلّدة المذاهب متعصبون لمذاهبهم، وإن خالفت الكتاب والسنّة بالاجتهادات المحضة.

فاتحني فخامة الحاكم العام بالكلام في هذه القضية، وقال: إن أقدر رجل على وضع قانون أساسي صالح للأمم الإسلامية كلها هو جمال الدين الأفغاني، لأنه عالم وحكيم وسياسي، وأنه درس تاريخه فلم يجده- سامحه الله- اعتنى بهذه القضية العظيمة، ثم تلميذه محمد عبده، وهو كذلك لم يصنع شيئًا، وتمنّى فخامة الحاكم العام لو أنني أكتب شيئًا في هذه القضية الجليلة وأعرضه عليه، وأن هذا يعدّ مني خدمة ذات قيمة للقضية، وإعانة للمشتغلين بها، فعلمت من حديثه على طوله أنه عامر الجوانح اهتمامًا بهذه المشكلة، فاعتذرت عن الشيخين بأنهما صرفا عنايتهما إلى الأهم من أحوال المسلمين في زمنهما، وهو التقريب بينهم، وإصلاح خللهم، وإعدادهم لينقذوا أنفسهم من أمرائهم المستبدين، ومن أعدائهم المتسلّطين، ولو تمّ هذا في زمنهما ولو في جهة مخصوصة، لكانت الخطوة الثانية الطبيعية هي هذا الدستور الإسلامي الذي تقصدونه، ولعلهما كانا يريانه أسهل مما نتصوّره

<<  <  ج: ص:  >  >>