للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن الصفح والعفو، وإن له في نفس سيد المرسلين لوقعًا مؤلمًا من يوم قال له ورقة: "إذ يخرجك قومك"، فقال: "أوَ مخرجيَّ هم؟ " إلى يوم أخرجه قومه بغير حق، إلى يوم أخرجه ربّه إلى بدر بالحق، إلى يوم صدَقَه ربّه الرؤيا بالحق.

...

ما زلت منذ درست السيرة بعقلي، أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجيٍّ من العبر والمثُلات، ومن بين تلك المقامات حادثة الهجرة. فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمَّح العوامل الإلهية فيها فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر. ويُؤَرّث الرؤساءُ والشعراءُ بينهما نار العصبيّة، حتى أضعفتهما العصبية، وحتى أطمع الضعف فيهما جاريهما القويين: جار الجنوب الحبشي، وجار الجنب الفارسي، وكادا يستعبدان هذا الجنس الحرّ لولا أن فال رأي أبرَهَة في الفيل، ومالتْ رايات فارس في ذي قار.

جاءت النبوّة من مكة إلى المدينة تعمل عملها في جمع القوّتين اللتين أحالهما التفرّق ضعفًا. فجمعت المهاجرين والأنصار، وكأنما جمعت عدنان وقحطان في دار، يتصافحان على العروبة، ويتآخيان على الإسلام، ويُحيِيان من الأواصر والشوابك ما أماتته عِبِّيَّةُ الجاهلية، ويُميتان من النعرات المفرّقة ما كانت تحييه المنافرات والمفاخرات، وفي عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار عنوان ذلك ودليله، ولو دامت للقرآن هيبته في الأفئدة وسلطانه على القلوب لما نبض عرق اليمانية والقيسية في الدولتين الأمويتين بالشرق والأندلس، ولما نجمت تلك النواجم التي ذهبت بريح العرب، ولما وجَّهت الدعوة العباسية وجهتها إلى خراسان، ولما بقيت هذه العروق الدساسة التي ما برحت تنفث السم في قلب الجزيرة العربية إلى الآن.

...

ليت شعري ... وليتٌ يقولها المحزون، هل تحمل ذكرى الهجرة المتكرّرة مع كل عام، أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان، وأولئك الحجازيين الراقدين، وهم منحدَر دماء عدنان، على أن يتداعَوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم، وأن يتآخوا على ما تآخوا عليه؟

هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرت للعرب من أخوة وسيادة، وعزّة وسعادة، فيتبايعون على حماية الحوزة العربية والذب عن حياض العروبة؟

<<  <  ج: ص:  >  >>