صراط السنّة السوي، ومكّن للخلاف، وأنقذ الأزهر من شيعة ليسلّط عليه شيعًا، ويا ليت كاتبه ووزيره القاضي الفاضل المفتون بالتجنيسات والمزاوجات والمطابقات أشار عليه بما يشبه مذهبه في الأدب، وهو أن ينقل الأزهر من الباطنية إلى الظاهرية ...
نقرأ في سيَر العلماء من السلف أن فلانًا عرض عليه الخليفة أو الأمير منصب القضاء فأبى وألحّ في الإباء، فلجّ الوالي في العرض فلجّ العالم في الإباء حتى ينتهي به إلى غضب الخليفة وما يتبع الغضب من آثار منها الضرب والحبس، أو ينتهي به الحال إلى الفرار والاختفاء، يأتي كل ذلك فرارًا من فتن الولاية ولوازمها كالتردد على أبواب السلاطين، وتعريض سلطان العلم لسلطان الحكم، وفرارًا من المطاعم الخبيثة التي مهما تتسع لها دائرة الإباحة فإنها لا تطهرها من شوب الشبهات، فهل من يدلّنا اليوم على عالم تعرض عليه ولاية القضاء أو ما دونها في المنزلة فيأباها تعففًا وتحوّلًا مسوقًا إلى ذلك بخوف الله وخشيته، أو بترفّع عن الشبهات؟ كلا، انهم لا ينتظرون عرض الولاية عليهم بل يخطبونها ويبذلون فيها الغالي من المهور وهو الدين والشرف والكرامة ويتوسلون إلى نيلها بالدنيء من الوسائل كالتوجّه بالكافر والفاجر، والتشفّع بالمهين والعاهر ودفع الرشى وهي أشنع الجميع، لأنها شهادة مقدمة على أنه سيرتشي ليسدّد الدين ...
ونقرأ في سيرهم أيضًا أنهم كانوا حين يتولّون الولاية يؤدونها كما أمر الله أن تؤدى، ويوفون بعهد الله فيها من العدل والتحري في الحق، وكانوا لا يقبلون الولاية إلا على اعتقاد أن قبولهم إياها واجب متعيّن شرعًا لإقامة القسط بين الناس وإنصاف الضعفاء من الأقوياء، فهم دائمًا في أداء واجب يؤجرون عليه لا في أداء وظيفة ينتفعون بها.
وارجع إلى وظائف العالم الديني الأخرى غير الولاية، فلتجدنهم فرّطوا فيها وأضاعوها، معتذرين بتأويلات ما جاء بها الدين ولا عذر بها، فهم قد هدموا ركنًا من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راضين لأنفسهم بأضعف الإيمان، وأنا لا أصدقهم حتى في هذه، إذ لا يخطر الباطل ولا المنكر لهم على بال حتى يغيروه بقلوبهم، وكيف يخطر المنكر ببالهم، وقد أصبح المنكر عندهم معروفًا، والباطل حقًا والشرك توحيدًا والبدعة سنّة، وعميت عليهم السبل واختلطت الحقائق؟
هم لا يذكّرون أمّة محمد، وإذا ذكروها لا يذكرونها بالقرآن كما أمر الله نبيّه، بل يذكرونها بمرغبات ومرهبات لم تأتِ على لسان صاحب الشريعة، ولم تتفق مع مقاصد شريعته، يزهدونها في العمل للآخرة بما شرعوه لها من أعمال بدعية، ويزهدونها في العمل للدنيا بما يفترون على رسول الله من أحاديث في ذم الدنيا وبما أثر عن شواذ الصوفية الهادمين لحقائق الدين ببدع التبتل الدعي، والانقطاع الكاذب عن الدنيا، وبذلك أضاعوا على الأمة