للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا التقصير الذي شاهدته وشهدت به على نفسي ناشئ عن قصور في ملكة التأمّل والبحث إذ ذاك، لأنها كانت مزاحمة بالأبحاث الدينية، وان رواية هذا الحديث في مجالس الرواية لا تثير في النفس أكثر من الاهتمام بحكم أكل لحمه شرعًا، وهو اهتمام له حظ واعتبار في موضوعه وجوّه الخاص، ولكن المثال البارد الفج "الصامط" (١) الذي لا يثير في النفس اهتمامًا بل يثير فيها اغتمامًا هو المثال الذي تعلّمناه من كتب النحو، وهو قولهم: " ... هذا جحر ضب خرب" يمثلون به للجر بالمجاورة أو بالتوهّم لا أدري، وانما الذي أدريه هو أن هذا النوع من الجر مسموع عن العرب، وهو من شذوذاتهم اللغوية وانحرافاتهم عن مقاييس لغتهم، وهو مقبول منهم لكنه مقصور على ما سمع منهم، فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا بهدم القواعد الصحيحة والجري على غير منهاج، ولهذه الشذوذات في العربية فلسفة خاصة لم يشبعنا أحد بالحديث عنها حتى الآن، ولو وجدت متسعًا من الوقت لكتبت فيها ما يصحّ أن يكون نواة في الموضوع، إذا تعاهده الباحثون أصبح شجرة ذات أكل شهي. ولفيلسوف هذا الفن أبي الفتح عثمان بن جني جمل متفرقة في هذا الموضوع لكنها تنطوي على نظرات سديدة وتدلّ على انفساح ذرع الرجل في هذا العلم، وإذا كان هذا النوع من الجر مسموعًا موقوفًا على السماع فلست على ثقة من أن مثال النحاة مسموع من العرب وإنما هو مثال سوقي انتحلوه، ثم قلّد آخرهم أولهم فيه على عاداتهم، وهل يصحّ لهم أن يمثلوا لمسألة سماعية بمثال مصنوع؟ لا. ودليلي على أن المثال مصنوع أمران:

ـ[الأول]ـ: أن نطق العرب لا يساعد على ما ادّعاه النحاة فيه، لأن كلمة خرب التي يدّعي النحاة جرّها جاءت مقطعًا في الجملة لم تعقبها كلمة أخرى، فإذا نطق بها عربي نطق بها ساكنة الآخر بلا شك، فمن أين يظهر الجر الذي ادّعوه فيها؟ ووددت لو ذاكرت بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه لأسمع رأيهم، وما عسى أن يأتوا به من حجج فارغة، وكم في كلام الفارغين من تسلية للهم وتزجية للوقت وترويح للخواطر المكدودة بشرط أن يكون السّامع موفور الحظ من الصبر.

ـ[والثاني]ـ: أن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يعرف العرب عن الضبّ من أنه لا يحفر جحره إلا في الكدى (جمع كدية) وهي جبيل صلب الأرض متماسك التراب، ولذلك يضيفونه إليها كثيرًا فيقولون: ضب الكدية، وضب الكدى، يستعملون هذا كثيرًا في كلامهم، وفي مقصورة ابن دريد، بيت مختومة بضب الكدى ولا أذكرها الآن وليس عندي ما أراجعها فيه، وقد قال الشاعر:


١) كلمة عامية معناها ثقيل الظل.

<<  <  ج: ص:  >  >>