للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سقى الله أرضًا يعلم الضبّ أنها ... بعيد عن الأدواء طيّبة البقل

بنى بيته فيه على رأس كدية ... وكل امرئ في حرفة العيش ذو عقل

فقد وصف هذه الأرض التي اختارها الضبّ لسكناه، بأن الضبّ- وهو الاختصاصي في هذه الهندسة- كأنه يعلم أنها بعيدة من الآفات، وأكبر الآفات في نظر الضبّ السقوط والانهيار والخراب.

وقال الشاعر الآخر فزاد المعنى المراد توضيحًا، وهو يتحدث عن الضبّ:

ويحفر في الكدى خوف انهيار ... ويجعل بيته رأس الوجين

والوجين: هو الأرض الصلبة الغليظة، ومن هذه الكلمة جاء قولهم: رجل موجّن، قوي عظام الأضلاع والصدر. ومنها ميجنة الثياب، آلة تدق بها، ومنها جلد موجّن: مضروب بعد الدبغ حتى تتداخل أجزاؤه وتلطف فيلين مع القوة. فهذا البيت شاهد على أنه "ليس جحر ضب خربًا"، ولهذه الخاصية في اختيار الضبّ للكدى، تصفه العرب بصفة ملازمة فيقولون "ضب دامي الأظافير" جمع أظفور. قال الشاعر:

تَرَى الشرّ قد أفنى دوائر وجهه ... كضبّ الكُدَى أفنى أنامِلَه الحَفْرُ

ومن تهكّمات المعري وهمزاته، أن صاحبه أبا القاسم المغربي المشهور في علم التاريخ والأدب بالوزير المغربي، اختصر في حداثة سنّه كتاب "إصلاح المنطق" ليعقوب ابن السكيت، وأهدى منه نسخة إلى صفيّه المعرّي، وكانت بينهما أسباب متينة العرى، فكتب له المعرّي جواب الإهداء رسالة من أبدع رسائله، وفيها نقد لكتاب ابن السكيت على طريقة المعرّي الغريبة في سخريته العجيبة يقول فيها، إن لم تخني الذاكرة.

"وقد أكثر يعقوب من الاجتهاد، في إقامة الأشهاد- يعني الشواهد- حتى ذكر رجز الضبّ وانّ مَعَدًّا من ذلك لجِدُّ مُغْضَب، أعَلَى فصاحَتِهِ يُسْتَعانُ بالقَرْض، ويُسْتَشْهَدُ بأحناش الأرض، ما رُؤبَةُ عنده في نفير، فما قَوْلُكَ في ضبّ دامي الأظافير ... ".

وهذه الرسالة الرائعة مطبوعة مصحّحة فيما طبع "كامل كيلاني" مع رسالة الغفران، فإن كانت عندك فراجعها، فلعلّ الحافظة لم تضبط ألفاظها، ومحل الشاهد فيها لموضوعنا وصفه الضب بما كانت تصفه العرب من أنه "دامي الأظافير" ولا سبب لذلك إلا حفره لجحره في الكدى الصلبة، وهذه كلها دلائل على فساد مثال النحاة إعرابًا ومعنًى. ولا ننكر أن بعض جحر الضِّباب تخرب، وقد خربت مدائن الرومان والفراعنة فضلًا عن جحور الضباب، ولكنه

<<  <  ج: ص:  >  >>