للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الشبّان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل وصحة التفكير والانقطاع للجهاد، وكان من طريقته في التربية أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسًا في التربية والأخلاق، فمن القواعد الاصطلاحية المعروفة قولهم- مثلًا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم، فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم كان يستخرج من معانيها اللغوية نظرات اجتماعية طبيعية ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل في جميع المقامات، وقد ذكر لي بعض من حضر درسه في قول صاحب الألفية "كلامنا لفظ مفيد كاستقم". قال: سمعته يقرّر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم ما عدا أبا اسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيءآخر وسما بي من الدهشة التي ما فوقها ممّا لا أجد له اسمًا، فكان درسًا اجتماعيًا، أخلاقيًا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدًا في المعاش والمعاد كان لغوًا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمته القواعد كلامًا، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالًا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجّل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن.

وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلًا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة ويتدرعّ إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدرّبهم على الأعمال النافعة، كما يدرّب القائد المخلص جنوده ويعدهم لفتح مصر أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الاصلاحية التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته، وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة التي نقلت الجزائر من حال إلى حال، وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبّار وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بلدنا حيث ابتدأ التعلّم وتوسّط فيه وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة وكتب مقروءة على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث.

وحج في سنة ١٩١٣ ميلادية ومرّ بالقاهرة ذاهبًا وبدمشق آيبًا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنّا نجتمع في أاغلب الليالي اجتماعًا خاصًا لا نتحدّث فيه إلا عن

<<  <  ج: ص:  >  >>