فإذا جاوزنا هذين، فما أحلى وما أغلى ما أهداه شمال العراق إلى شمال إفرلقيا من فلسفة أبي عثمان ابن جني في لسان العرب التي هي روحانية العربية تجلّت لطائفها على لسان ابن جني، ومن الآداب الرقيقة التي سالت بها قرائح السري الرفّاء والخالديين والتلعفري، وكأنّ الله تعالت كلمته ادّخر لأخيكم هذا منقبة أداء الواجب عن الأموات في الأندلس وعن الأحياء في المغارب الثلاثة، وما هذا الواجب إلّا ثناء كعرف المسك يُهدى لأهل الموصل، وان ديون الأدب لا يسقطها مرُّ القرون.
وزرتُها دارسًا في الدرجة الثانية بما يسعه وقتي لآثار الأقدمين الذين عمروا العراق، منتفعًا بالعِبر، واصِلًا للمبتدإ من شأنهم بالخبر، مهتديًا بهدي القرآن الذي يأمرنا بالسير في الأرض والنظر في عواقب ومصائر مَن قبلنا، وان العراق من أغنى الأقطار بهذه الآثار، فهو يكاد يكون متحفًا لآثار الحضارات والشرائع القديمة، وما كان متحفَ الحضارات والشرائع إلا لأنّه كان مدفن الحضارات والشرائع، وما كان مدفن الحضارات والشرائع إلّا لأنّه كان منبتًا للحضارات والشرائع، وكان لذلك مساحب للفاتحين، ومجالًا للطامحين، ففي سهول اربيل ائتَقَى الشرق والغرب ممثلين في الاسكندر وداريوس متصاولين متطاولين إلى جعل الممالك مملكة واحدة، وعلى تلك السهول مرت موجات الهجرة الآرية من الشرق إلى أوروبا في أحقاب التاريخ البعيد.
...
وما لي لا أصدقكم- أيها الإخوان- جلية نفسي، وهي أن دراسة الآثار كانت من نوافل أعمالي ومن التوابع الثانوية للباعث الأصلي، وهو الالتقاء بإخواني الذين هم أبعد أجزاء العراق عنّا، ووزن حالتهم بحالة جنوب العراق ووسط العراق، ثم وزن الجميع ببقية أجزاء العالم الإسلامي، ووزن الجميع بقومي الأدنين وعشيرتي الأقربين من تفاوت واتفاق، في الأخلاق.
وما لي لا أصدقكم ثانية، بأنني وجدتُ العلة واحدة والأحوال متشابهة، حتّى كأننا سلالة أبوة قريبة العهد، ففي بعضنا من بعض مَشابه- على بُعد الدار-: جمود وخمود وركود، جمود في فهم الحياة، وخمود في القوى السائقة إلى الحياة، وركود في الأعمال التي يتفاضل بها الأحياء، والغايات التي يتسابق إليها الأحياء.
وإن تشابهنا جميعًا في هذه الأحوال العامّة، وتقاربنا جميعًا في الأحوال الخاصّة، وقعودنا جميعًا عن مراتب الرجولة، وتجردنا جميعًا من فضائل الشجاعة والغيرة على الحمى، والحفاظ والغضب للعرض وحماية الحقيقة، ورضانا جميعًا بالذل والضيم والمهانة والتعبّد للأجنبي، والخضوع له في كلّ شيء، والسعي في مرضاته حتّى فيما يهدم ديننا ويضيع