للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قوميّتنا، واحتقار بعضنا لبعضنا، كلّ هذا التشابه الذي يجده الباحث المستقرئ في أحوال المسلمين بارزًا في جميع المسلمين من أقصى السوس في المغرب الأقصى إلى أقصى الشرق في أندونيسيا- هو الذي جرّأ أعداء الإسلام على أن يجعلوا سببه الأصلي هو الإسلام، وبنوا على هذه المقدّمة الخاطئة أن الإسلام دين خمود وركود وجمود وخضوع وخنوع، ثم أوهموا الجاهلين منا بحقائق الإسلام وتاريخ الإسلام وأمجاد الإسلام أن هذا هو الحق المبين، وأن هذه هي النتيجة المنطقية، فأضلّوهم وأصبحوا يردّدون معهم هذه الكلمات، كما تردّد الببغاء ما تسمع من غير فهم ومن غير عقل، وان مصيبتنا بالجاهلين منا أعظم من مصيبتنا بالأجنبي، فالأجنبي يحتلّ ويستغلّ وهو يعلم أن الدار ليست داره وأنه خارج منها لا محالة، ولكنه لكيده للإسلام وعداوته للمسلمين لا يخرج حتّى يفسد على أصحاب الدار شأنهم بما ينفثه في عقولهم من المعاني الخبيثة المفرقة، وحتّى يترك فريقًا من أهل الدار يسبّحون بحمده، وفريقًا يحنّون إلى عهده، وقد أصبحنا من هذه الحالة على قاعدة، وهي أن كلّ أجنبي لا يخرج من أرض شرقية إلا وهو على نيّة الرجوع.

إن أَمْضَى سلاح قاتلنا به فقتلنا هو التضريب بين صفوفنا حتّى أصبح بعضنا لبعض عدوًا، والتخريب لضمائرنا حتّى أصبحت خيانة الدين والوطن بيننا مَحْمَدَةً نتمادح بها، والتمزيق لجامعتنا حتى أصبحنا أممًا متنابذة نتعادى لإرضائه، ونتمادى في العداوة بإغوائه، والتوهين لقوانا المعنوية حتّى أصبحنا كالتماثيل الخشبية لا ترهب ولا تخيف، والاستئثار بقوّاتنا المادية حتّى أصبحنا عالةً عليه، والتعقيم لعقولنا وأفكارنا حتّى أصبحنا نتنازل عن عقلنا لعقله وإن كان مأفونًا، وعن فكرنا لفكره وإن كان مجنونًا، وتلقيح فضائلنا برذائله حتّى انحطّت فينا القيم المعنوية، وبخست موازين الفضيلة عندنا، وأخيرًا ترويضنا على المهانة حتّى أصبحنا نهزأ بماضينا افتتانًا بحاضره، ونسخر من رجالنا الذين سادوا العالَم وساسوه بالعدل إعجابًا برجاله، وننسى تاريخنا لنحفظ تاريخه، ونحتقر لساننا احترامًا للسانه، ووَاذُلّاه! أيرفع الشرق كبراءَه ليكونوا أدوات لانحطاطه، ويُعزّهم ليكونوا آلات لإذلاله!

هذا الاستعمار لعقولنا وأفكارنا هو أخطر أنواع الاستعمار علينا، وإن مصائبه منزلة علينا من إجلالنا للفكر الذي يأتي من أوروبا والكتاب الذي يأتي من أوروبا، وتقديسنا للأستاذ الذي يأتي من أوروبا والفنون المسمومة التي تأتينا من أوروبا.

هذا النوع الخطر من الاستعمار العقلي هو الذي مهّد للطامّة الكبرى التي هي مأرب الاستعمار منّا، وهي هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي زيّنها لنا كما يزّين الشيطان للإنسان سوء عمله، وحبّبها إلينا كما يحبّب الطبيب الغاشّ للمريض تجرّع السمّ باسم الدواء، ولو كانت خيرًا لَسبقنا إليها في أممه وأوطانه، ولكنه يتزيد بالعناصر الأجنبية ليقوى في نفسه، ويفرّقنا لنضعف، فيكون ضعفنا قوّة فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>