أطفأ شعلتها التشوّف إلى الوظيفة قبل الوصول إليها، لأن ذلك التشوّف يدور بصاحبه في الدائرة الضيّقة التي توصّل إليها، لا في الدائرة الواسعة التي يُشرف منها على آفاق العلم وعوالمه، فما أشام الوظيفة على العلم، وما أضرّ ذلك العرف السائد في تونس بالنبوغ، وهو توارث الوظائف الدينية والشرعية في بيوت مخصوصة، حتى أصبح أبناءُ تلك البيوت يتطلّعون من أول العهد بالطلب إلى الوظائف التي يشغلها ذووهم، كأنها وقف عليهم، أو حق مفروض لهم، وإن ذلك وحده لمشغلة عن طلب الغايات في العلم.
...
إن الإصلاح المرجوّ لجامع الزيتونة لا يبلغ مداه إلا إذا توفّرت فيه ثلاثة شروط: الاستقلال والمال والرجال.
أما الاستقلال- وهو أهم الشروط- فهو أن تصبح الكلية الزيتونية بمنجاة من التسلّط الحكومي كيفما كان لونه، بعيدةً عن المؤثّرات السياسية والتيارات الحزبية، مثبتةً وجودها الذاتي بأنها تؤثّر ولا تتأثّر؛ فمن حاول إخضاعها لنزعة حكومية، أو جرّها لمذهب سياسي، أو توجيهها لوجهة حزبية، فهو مفسد خبيث الدخلة.
وأما المال فإن الإصلاحات تتطلب أموالًا طائلة، ونفقات سخية، ومهما تبذل الحكومة من الخزينة العامة فإن ذلك لا يكفي ولا يُغني، على ما فيه من آفات، فإن الحكومات لا تعطي بدون أخذ، وبدون أن تتّخذ من العطاء وليجةً للتدخّل ومقادة للمسيرين، ودرَّ درُّ الأوقاف الإسلامية لو لم يفسدها سوء الإدارة وتسلّط الاستعمار، إن الكليات حتى في أغنى أمم العالم لا تقوم على مال الحكومة المحدود وحده، وإنما تقوم على عطاء الكرماء وبذل المحسنين، فهل آن لأمّتنا أن تعلم هذا فتعمل به؟
وأما الرجال فإن في الزيتونة رجالًا لو تعاونوا وسلموا من داء المنافسة على الرياسة لحقّقوا الآمال في الإصلاح، ولعجّلوا به، وقد كانوا ينتظرون القائد الحازم فقد وجدوه.
...
إن الإصلاح المنشود للزيتونة لا يتمّ إلا في جوّ بعيد عن القصر ووساوسه، وعن الهيكل الوزاري ودسائسه، وعن الاستعمار ومكائده ومصائده.
وإن الزيتونة لا تتبوّأ مكانها الرفيع إلا بواسطة جهاز داخلي متماسك الأجزاء من علمائها، يؤُمّهم إمام مدرّب محنّك فقيه في المذاهب الإدارية، مجتهد في أصولها.