كانوا لينالوها لو نجحت الثورة وتخفصت الجزائر من فرنسا، ومن ذلك الحين غابت طبقة من أصحاب البيوتات والمجد التليد، وأنشأت فرنسا طبقة أخرى من هؤلاء المتقرّبين إليها، صنعتها بيدها وعلى عينها، فكانوا هم وذرّيتهم نكبة على الجزائر إلى يومنا هذا، ويسميهم الاستعمار الفرنسي (العائلات الكبيرة).
ثورة المقراني هي آخر الثورات الجماعية بالجزائر وقد شهدها جدي ووالدي، وعمره سبع عشرة سنة حاملين للسلاح، واستشهد فيها جماعة من قبيلتنا، وكان المقراني- رحمه الله- يعتمد على قبيلتنا لمكان الجوار والعصبية، وعلى جدي لمكانه في العلم والكلمة النافذة، وكان والدي- رحمه الله- يقص عليّ أخبار الوقائع التي شهدها هو وأبوه، فكنت أفهم إذ ذاك أن الثورة ينقصها التدبير المحكم، وأن في بواعثها عنصرين ضعيفين جدًّا لا يحسن الاعتماد عليهما في الثورات، الأول أن مدبّريها اغتنموا فرصة اشتباك فرنسا مع بروسيا في حرب السبعين فاعتمدوا على هذا وحده من غير أن يقرأوا حسابًا للاستعداد الداخلي العام بقسميه النفسي والمادي، وهذا نوع من الاغترار يقبح بمدبري الثورات، والاعتماد على انهماك العدو في حرب غير موفق دائمًا، لأنه إنما ينجح ما دام الشاغل موجودًا والاشتباك قائمًا، أما على الاحتمالين الآخرين، وهما انتصاره العاجل أو انهزامه السريع، فلا ينفع اعتبارهما في التدبير، لأن العدوّ إذا انتصر على من هو أقوى من الثائرين عليه، فإن نخوة النصر وفراغ الجند يعينانه على قمع الثورة، وإذا انكسر أمام العدو القوي فإنه يأنف أن يجتمع عليه انكساران في آن واحد، فيجمع فلوله ويتصدّى بهم لقمع الثورة، وهذا هو ما وقع من فرنسا في قمع ثورة المقراني، فإن استراحتها من الحرب البروسية ولو كانت مغلوبة، هيّأ لها أن تجمع قوّتها وفلول جيشها المنهزم وتنقلهم إلى الجزائر لتحطيم الثورة القائمة بها.
والحاج أحمد المقراني رجل شجاع مؤمن، ولكنه كرجال عصره متوسط الشخصية تنقصه الحنكة والبصيرة، وفت في عضده شيء آخر وهو تخاذل بعض شركائه في تدبير الثورة، وقيام بعض الوجهاء ذوي النفوذ بثورة لا صلة لها بثورته في رأي ولا تدبير ولا قيادة، فكانت هذه المنافسة مفسدة لنيّات كثير من الناس، على أن بعض القبائل لم تشارك في الثورة تربّصًا وانتظارًا، وبعضها- وهي قليلة- تعاونت مع فرنسا، فهذه العوامل مجتمعة أدّت إلى فشل ثورة المقراني.
ولم تقع بعد ثورة المقراني ثورة ذات بال، وإنما وقعت انتفاضات محلية مرتجلة من بعض الرؤساء وقبائلهم المحدودة العدّ، ولم تكلّف فرنسا في القضاء عليها إلا أسابيع أو أشهرًا.
يصحّ أن نقسم حالة الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي بحسب تأثيره فيهم وتأثرهم به، إلى ثلاث مراحل، تبتدئ المرحلة الأولى منها من سنة ١٨٣٠، وتنتهي سنة ١٨٧١ ومدّتها