للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثانية من سنة ١٨٧١ وتنتهي سنة ١٩١٤، ومدّتها ثلاث وأربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثالثة من سنة ١٩١٤ وتمتد إلى يومنا هذا، فمدّتها إحدى وأربعون سنة. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائص وألوان نفسية من التأثّر والتأثير مسبّبة من المعاملات بين الفريقين، تجعل كل مرحلة تمتاز عن الأُخريين وتظهر الفوارق بينهن ظهورًا واضحًا مع اتصال المراحل بعضها ببعض، وسبب وضوح تلك الفوارق عظم أثر الحادثة التي تفصل بين المرحلة والمرحلة، فالفاصل بين المرحلتين الأولى والثانية حرب السبعين وأثرها في الأمّة الفرنسية كأمّة، وثورة المقراني وأثرها المتعاكس في الأمّتين الجزائرية والفرنسية، والفاصل بين المرحلتين الثانية والثالثة، الحرب العالمية الأولى وآثارها الخاصة والعامة.

ونحن نمرّ بكم على هذه المراحل ونعدّ لكم آثارها بإجمال، حتى تلموا بأصول الأحكام التي تسمعونها على المرحلة الثالثة وهي المرحلة ذات الموضوع الذي طلب منا الحديث عنه.

أما ـ[المرحلة الأولى]ـ:

فهي ثورات متصلة الحلقات في أغلب نواحي القطر، تتخلّلها هدن، كلها على دخن، وقد استغرقت حروب الأمير عبد القادر وحدها نصف تلك المرحلة تقريبًا، فالخصائص البارزة لتلك المرحلة هي الحرب والحديد والنار: فرنسا مصمّمة على تثبيت قدمها في الجزائر تطبيقًا لخطة مرسومة لا رجوع فيها ولا هوادة في الوسائل الموصلة إليها، والجزائريون مصمّمون على الدفاع عن وطنهم وإنقاذه من براثن الغاصب، فإذا شذّ عن ذلك جبان، أو استسلم ضعيف إيمان، فذلك ما لا تخلو منه أمّة ولا زمان، وفي فرنسا نفسها كانت توجد طوائف ناقمة على غزو الجزائر غير راضية به. وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة دماء وأشلاء وموت فماذا ننتظر أن تكون الألوان التي تصطبغ بها النفوس في هذا الجو؟ إنه العداوة والبغضاء والحقد والانتقام يتداولها الفريقان، وعلى هذه الصورة مرّت المرحلة كلها، فإذا خفّ القتال في آخرها ورقأت الدماء، فإن العداوة والحقد والتربّص لم تخفّ، بل كانت تزداد شدّة واضطرامًا كلما ازدادت أسبابها، وأسبابها كل يوم تتجدد.

ففي هذه المرحلة كانت الأحوال متشابهة الأواخر بالأوائل، ولا علاقة بين الأهلي والمستعمر إلا العداوة وآثارها، وإن كانت هناك ظواهر هدوء في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة فهي إلى حين، والأحكام في الجهات التي اضطرّت إلى الخضوع عسكرية صارمة لا تزيد شقة العداوة إلا اتساعًا، على أن فرنسا لم تنسَ في تلك المرحلة مكايدها من التضريب بين الرؤساء والإغراء بين القبائل، والاستمالة بالمال والوظائف والوعود، وقد أثّر سحرها بين طوائف ما زالت تطلق على أعقابهم (أولاد أحباب فرنسا).

<<  <  ج: ص:  >  >>