التي تبتدئ من حرب السبعين وثورة المقراني، فإن الأحوال انتقلت فيها من الضدّ إلى الضدّ في الفريقين.
فأما الجزائريون فإن فشل الثورة أثّر في معنوياتهم أسوأ الآثار، وجاء احتلال فرنسا لتونس في تلك الظروف جرحًا على جرح، وقرحًا على قرح، وساءت ظنونهم بكل شيء، حتى أوشكوا أن يقنطوا.
واستغلّ الدجّالون من المتصوفة والدراويش، الذين اصطنعتهم فرنسا لغاية التخدير، هذه الحالة النفسية في الشعب، فتعاهدوه بمنوّمات ينسبونها إلى الدين وما هي من الدين، وفحوى تلك المنومات أن الرضا بالاستعمار إيمان بالقدر. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
وأما الفرنسيون المستعمرون فقد شعروا لأوائل هذه المرحلة أن أقدامهم ثبتت في أرض الجزائر، وأن المقاومة لم يبقَ لها شأن يخاف منه، وأنه آن للاستعمار أن يبسط ظلّه على الأرض، وسلطانه على الأبدان، ولكنهم أضاعوا الرشد في أول هذه المرحلة، وركبهم الطبع اللاتيني المركّب من الغرور والأنانية، فعموا عن تلك الحقيقة المجرّدة وهي أن القلوب لا تملك بالسيف، وإنما تملك بالإحسان، وخطوا لسياستهم في الجزائر السنن التي هم سائرون عليها إلى الآن، ومبناها على أن الأوربي سيّد، والأهلي عبد، ويتفرّع على هذا أنه لا حق للأهلي في الوظائف كيفما كانت مؤهلاته، ولا نصيب له من خيرات بلاده كيفما كان استعداده، وفروع أخرى كلها خبيث نكد.
بدأ الاستعمار على أثر فشل ثورة المقراني بانتزاع الأرض الخصبة في مقاطعة قسنطينة، واتخذ من الثورة ذريعة لذلك، وأقرّ فيها آلاف الأسر من سكان الالزاس واللورين، المقاطعتين اللتين انتزعتهما ألمانيا المنصورة من فرنسا المقهورة، وجاءوا بهم حفاة عراة جياعًا، وأحفادهم الآن هم ملوك الأرض بالجزائر وهم المسيرون لسياستها، لا على رغمنا بل على رغم فرنسا أيضًا، وطالما هدّدوها بالانفصال، وقد أضافت إلى هؤلاء بعد ذلك أخلاطًا من الطليان والإسبان والكورسيكيين، وسلطتهم على الأرض ومن فيها، وأطلقت أيديهم في انتزاعها من الأهلي بكل وسيلة، فهذا سلاح عزّزته بسلاح ثان، وهو قانون الانديجينا ( code de l'indigénat) الخاص بالأهالي وهو يبيح لأصغر حاكم فرنسي أن يسجن الأهلي خمسة أيام ويغرمه خمسة عشر فرنكًا، وله أن يضاعفها عشرات المرّات من غير سؤال ولا جواب ولا استئذان ممن هو أعلى منه، ولا تمكين من دفاع ولو بكلمة، وقد تكون الكلمة الواحدة من فم السجين موجبة لسجنه خمسة أيام، أو عشرة أيام أو ما شاء