للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حضرة الحاكم، وكانت كلمة واحدة من معمّر أوروبي يلقيها إلى الحاكم بأن فلانًا الأهلي امتنع من أن يبيع لي أرضه كافية في بقائه في السجن أشهرًا مع مضاعفة التغريم حتى يبيع أرضه بالقيمة التي يرضاها المعمّر.

لا ريب أن هذا القانون الجائر الذي تضيق العبارات عن وصفه هو أمضى سلاح وأفتك سهم قضى به الاستعمار الفرنسي على البقية الباقية من نخوة الأمّة ورجولتها، وهذه العقوبة التي ذكرناها تترقّى مع رتبة الحاكم، فإذا كانت رتبته أعلى من المتصرف ففي قبضته من هذا القانون أن يسجن الأهلي البريء الماشي في الشارع أو المنعزل في بيته شهرًا كاملًا وله أن يضاعفه قبل نهايته بساعة واحدة، وله أن يغرم بما يناسب عقوبة السجن، حتى ينتهي الأمر إلى الوالي العام الذي هو صاحب أعلى منصب في الجزائر، فمن سلطته التي يخوّلها له هذا القانون أن ينفي أعلى جزائري قدرًا سنة كاملة بلفظة واحدة من غير مدافعة ولا محاكمة.

وعزّز السلاحين بسلاح ثالث وهو قانون استثنائي آخر سمّاه "ريبريسّيف" ( Répressif) (٣) وهو عبارة عن محاكم زجرية خاصة بالأهالي، وكَّلَ فيها الأمر إلى صغار القضاة الأوربيين للحكم على المسلمين في جنايات تافهة، بأقسى العقوبات التي تستمد قسوتها من الحقد لا من القانون، ولا تقبل هذه الأحكام النقض ولا الاستئناف.

ثم عزّز هذه الأسلحة برابع، وهو "الضمان المشترك" وهو من القوانين الوحشية في عصور الظلمات، أحيته فرنسا المتمدنة في عصور المدنية، لتتخذ منه دليلًا على مدنيتها، ومعناه ما قاله زياد ابن أبيه (أخذ البريء بذنب المجرم)، ويقلد عليه بما يتفق مع روح الحضارة الفرنسية، بأنه (أخذ الأبرياء بلا ذنب اقترفوه).

وأصل هذا القانون أن الجزائر تكثر فيها الغابات الطبيعية وكلها محتكرة للحكومة، وهي من الموارد الدارّة على خزينتها العامة، ومعظم هذه الغابات شجرة الفلين وهي شجرة سريعة الاحتراق لمجرّد الاحتكاك، وكثيرًا ما تشتعل بهذا السبب (السماوي) مساحات واسعة من الغابات، فكان من عدالة الشرع الاستعماري أنه كلما وقع حريق من هذا الشكل حكم على جميع السكان الأهليين في وسط الغابة وفي أطرافها وقريبًا منها، على مسافة حدّدها، بغرامة تساوي ما يدفعونه جميعًا من الضرائب الاعتيادية لسنة واحدة.

والحكمة العليا للاستعمار من القانونين الأولين هي إذلال المسلم العربي الجزائري، والحكمة من القانون الثالث هي إفقاره. والإذلال والإفقار والتجهيل هي الأقانيم الثلاثة في عقيدة الاستعمار التي يتعبّد بها في معاملة المسلمين الجزائريين.


٣) Répressif : قَمْعي .. زَجْري.

<<  <  ج: ص:  >  >>