للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكّل كالتوكّل، والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة، فدخلت معها معاني الإشراك، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها. فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولم يهذّب الصوم النفوس، ولم يكفكف من ضراوتها، ولم يزرع فيها الرحمة، ولم يغرها بالإحسان.

ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن، وآيات الأكوان، لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله- وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف فمن وحّد الله حق توحيده، قدره حق قدره، فعرفه عن علم، وعبده عن فهم، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا، وإن كانت الألفاظ واحدة، وإن أَدْرِي أمن رحمة الله بنا، أم من ابتلائه لنا أن جعل لغة الدين والدنيا واحدة؟

أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، وينفح عليها بالرّوح، ويخزها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة، وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا، ليكون ربيعًا للنفوس متنقلًا على الفصول، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة.

إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير، ويسكّنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسر العادات. ويحرّرها من رقّ الشهوات، ويجتثّ منها فساد الطباع، ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر، ومثبّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.

هو مستشفى زمانيّ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية.

...

لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حِكَم، يظهر بعضُها بالنصّ عليه أو بأدنى عمل عقليّ، ويخفى بعضها إلا على المتأمّلين المتعمّقين في التفكير والتدبّر، والموفّقين في الاستجلاء والاستنباط، والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفس وتطهيرها من النقائص الروحية، وتصفيتها من الكدرات، وإعدادُ ها للكمال الإنساني، وتقريبها للملإ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية، وينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمعٌ للغرائز عن الاسترسال في الشهوات التي هي أصل البلاء على الروح والبدن، وفطم أمهات الجوارح عن أمهات الملذات، ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>