للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مؤدب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه، والحدّ من سلطان الشهوات عليه، بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تبعده عن الكمال، وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الطفل بالشدة في بعض الأحيان، وأن يعاقب بالحرمان من بعض ما تميل إليه نفسه، يجب في التربية الدينيّة للكبار المكلّفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ائخَاشِعِينَ}، أو متباعدة كشهر الصوم، فإنه لا يأتي إلا بعد أحد عشر شهرًا، كلها انطلاق في المباحات، وإمعان فيها، واسترسال مع دواعيها، وإن شهرًا في التقييد الجزئي بعد أحد عشر شهرًا في الانطلاق الكلي لقليل، وإن جزءًا من اثني عشر جزءًا ليسير في حكم المقارنات النسبية، فهو يسر في الإسلام ما بعده يُسر، وسماحة ما بعدها سماحة.

لو أن مسرفًا في تعاطي الشهوات، يطاوع بطنه في التهام ما حلا من المطاعم وما مرّ، وما برد منها وما حرّ، ويطاوع داعيته الأخرى باستيفاء اللذة إلى أقصى حد، لكانت عاقبة أمره شقاءً ووبالًا، ونقصًا في صحته واختلالًا، ولكانت الحمية منه في بعض الأوقات واجبًا مما يأمر به الطبيب الناصح، تخفيفًا على الأجهزة البدنية، وادّخارًا لبعض القوّة إلى الكبر، وإبقاءً على اعتدال المزاج، وتدبيرًا منظمًا للصحة، بلى ... وإن ذلك لهو الحكمة البارزة في الصوم، تطبيقًا للتدبير في شهر، وإرشادًا إليه في بقية الأشهر: وإذا كان كثير من المسلمين قد أفسدوا اليوم هذه الحكمة بالإفراط في التمتّع بالشهوات في ليالي رمضان حتى كأنها واجبات فاتتهم، فهم يقضونها مضاعفة مع واجبات الليل، وأفسدوا أجر التعب فيه بنوم نهاره، وسهر ليله في غير طاعة، فإن ذلك لا يقدح في الحكمة الدينية، لأن من كمال هذه الحكمة أن يقتصد المسلم في كل شيء وفي كل وقت، وأن يجمع بين سنّة الدين وبين سنّة الكون في جعل الليل لِباسًا والنهار مَعاشًا.

...

إن هذا الاستعداد المتناهي الذي يستعدّه مسلمو اليوم لرمضان بالتفنن والاستكثار من المطاعم والمشارب مخالف لأوامر الدين، منافٍ لحفظ الصحة، مناقض لقواعد الاقتصاد. ولو كان هؤلاء متأدّبين بآداب الدين لاقتصروا على المعتاد المعروف في طعامهم وشرابهم، وأنفقوا الزائد في طرق البر والإحسان التي تناسب رمضان، من إطعام الفقراء واليتامى والأيامى، والغالب أن يكون لكل غنيّ مسرف في هذا النوع جارٌ أو جيران من الفقراء والأيامى واليتامى، وهم أحقّ الناس ببرّ الجار الغني، ولو فعل الأغنياء والمسرفون ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربة أخرى ذات قيمة عظيمة عند الله، وهي الإحسان إلى المعدمين، وذات مزية في المجتمع، لأنها تقرّب القلوب في الشهر المبارك، وتشعر الصائمين كلّهم بأنه شهر إحسان ورحمة وتوكيد للأخوة الإسلامية.

<<  <  ج: ص:  >  >>