للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان من لطائف الحكم المنطوية في فريضة الصوم قمع الغرائز، فمنها أيضًا إمرار العوارض الجسمية على من لم يتعوّدها، ففي الناس مترفون منعّمون، يستحيل في العادة أن يذوقوا ألم الجوع لما تيسّر لهم من أسباب الشبع، فكان في هذا التجويع الإجباري بالصوم إشراك لهم مع الفقراء في الجوع حتى يذوقوا طعمه، ويتصوّروه على حقيقته، إذا وقف أمامهم سائل جائع يشكو الجوع ويشكو آلامه ويطلب العون بلقمة على دفعه، ومن ذاق الألم من شيء رقّ للمتألمين منه.

وتصوّر أنت غنيًّا واجدًا ميسّر الأسباب لا يطلب شيئًا من شهوات البطن إلا وجده محضرًا، ثم يقف أمامه فقير عادم لم يذق الطعام منذ ليال، فهو يتفنن في وصف الجوع وآلامه، والمضطر حين يطلب الإحسان، أخطب من سحبان، فهل ترى نفس هذا الغني المنعّم تتحرك للخير، وتهتزّ للإحسان، كما تتحرّك وتهتزّ، وتسرع إلى النجدة نفس من سبق له الحرمان من الطعام والتألّم لفقده؟

...

ومن مزايا هذه العبادة في غير هذا الباب أنها عبادة سلبيّة، بمعنى أنها ليس فيها عمل إيجابي من أعمال الجوارح، كالصلاة والحج، وحتى الزكاة فإن فيها نقلًا ودفعًا، وإخراجًا، وإنما الصّوم إمساك عن شيء كان مباحًا في أيام غير رمضان، ثم يعود إلى أصله بعد خروج رمضان، والإمساك وإن كان عملًا إلا أنّه سلب وانتفاء، وسرّ هذه المزيّة أنه أبعد العبادات عن الرياء الماحق للأعمال، حتى إن التسميع فيه- وهو قول الصائم: إني صائم- لا يحمله السامع على أنه تمدّح بالصوم، وليس فيه عمل يُرى، ولا أثر حقيقي أو مصطنع كأثر السجود في الجباه، إلا الشحوب الذي يكون من المرض كما يكون من الصوم، ولهذا البعد من الرياء ورد في حديث قدسي: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

ومن عظم منزلة الصوم عند الله أن شرعه عقوبةً وكفارةً عن ارتكاب بعض المخالفات كالحنث في اليمين، والتمتعّ بالعمرة إلى الحج، والظهار، وقتل الخَطإ، وفطر العمد في رمضان، ولم يجعل هذا لغيره من العبادات والأركان، فلا تكفير عن ذنب بصلاة ولا حجّ ولا مال من جنس الزكاة.

...

وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين اقتصارٌ على ما يحقق معناه الظاهري الذي تناط به الأحكام بين الناس، وتظهر الفروق، فيقول الفقيه: هذا مجزئ، وهذا غير

<<  <  ج: ص:  >  >>