للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل العملي النهائي فيها سنة ١٩٠٥، بالرغم من احتجاج البابا المتواصل، ووصول العلاقات بينه وبين حكومة فرنسا إلى أسوأ الأحوال، وقد قال مقرر مشروع الفصل كلمته السياسية البليغة: "الحكومة الفرنسية ليست ضد الدين، ولكنها لادينية L'Etat français"

"n'est pas antireligieux, il est a-religieux وهي كلمة ذات وجوه ومخارج، نفهمها نحن كما شئنا ونفهمها كما شاء قائلها، ويفهمها كل ذي عقل بعقليته الخاصة، وتفهمها المستعمرات من شرح الواقع لها، ويتم الفصل في فرنسا على تلك الصورة الحاسمة بين ضجيج المتطرفين في تأييده والمتطرفين في مناهضته، وفي بقايا الغبار الثائر من قضية الضابط "دريفوس". كل ذلك والدين المفصول دين فرنسا، اقترن تاريخه بتاريخها قرونًا، واتحد مزاجه بمزاجها، وعرفت فيه بأنها "ابنة الكنيسة البكر"، ومقتضى ذلك كله أن يكون الإسلام في الجزائر مفصولًا عن حكومتها مع أو قبل فصل المسيحية عن حكومة فرنسا، لأن الإسلام ليس دين الحكومة، وليس منها، وليست منه بسبيل.

ولكن ذلك الفصل بقي مقصورًا على فرنسا وحدها، ولم يقطع البحر إلى الجزائر ... لأن الدين في الجزائر الإسلام ... والثورة وآثارها، والجمهورية ومبادئها، كل أولئك لم ينشئ العقل الفرنسي اللاتيني المسيحي إنشاء جديدًا، ولم ينزع منه ما وقر فيه من آثار الصليبية ضد الإسلام، والعقلية الغالبة في أيام احتلال الجزائر، هي الغالبة في أيام نضج المبادئ الجمهورية وهي المسيطرة عليه في هذه الأيام التي نسخ العلم فيها كل عهد وفسخ الزمن بأحداثه كل عقد، وأصبحت فيه الحرية أنشودة كل لاغ، ونشيدة كل باغ، والتمس ما شئت مجالًا آخر لتطور هذه العقلية، فأما في الإسلام ... وأما في الجزائر ... فلا ... ومكلف هؤلاء القوم ضد طباعهم، متطلب في الماء جذوة نار، كما يقول التهامي الشاعر، لذلك بقيت قضية فصل الإسلام عن حكومة الجزائر منظورة بالعين الاستعمارية، وموزونة بالميزان الصليبي، ومفهومة بالعقل المتحجر، "تجمهرت" فرنسا أو "تدكترت" أو اختلفت عليها الألوان بياضًا وحمرة، فالاستعمار في الجزائر هو هو في نظرتها، والإسلام في الجزائر هو هو في حكمها واعتقادها، ولاستقرار هذه العقيدة في مستقر اليقين من نفس الحكومة الفرنسية، نراها حين تلجئها الأحداث إلى تغيير في الوضعية، أو يكثر عليها الإلحاح في تبديل الحالة، تدور حول نفسها ولا يزايل قدمها موضعه، فتصدر القوانين بالفصل، ولكنها تقيدها بالتحفظات التي تجعل الفصل تأكيدًا للوصل، أو تفتح فيها من المنافذ ما يجعل المنفذ- وهو استعماري طبعًا- في حلّ من كل ما يفعل، كما فعلت في قانون ١٩٠٧ وفي دستور الجزائر الأخير ... والدارس لهذه القوانين بعقل مجرد، يراها بعيدة من الصراحة والحسم، دائرة على المداورة والمطاولة والاستبقاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>