للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعل ذلك الحكم الصادر فعله في نفوس القوم، وكان وقعه فيها أليمًا، وهم أول من يعلم أنه حق، ولكنهم كانوا يسترونه بظواهرَ كاذبة، معتزّين بقوّة الحكومة مغترّين بغفلة الجمهور الذي يغشى المساجد، آمنين أن تقال فيهم كلمة الحق الفاصلة.

وكان تأثير ذلك الحكم في طبقات الأمّة بحسب درجاتها في الفهم ذكاءً وغباءً، وبحسب حالاتها في الحكم على الأشياء صراحةً ونفاقًا، وعلى قدر تأثّرها بالدين احتياطًا وتساهلًا، فأما الأذكياء الصرحاء المحتاطون فأقلعوا عن ائتمام يقودهم إلى غضب الله، واستشفاع يجرّهم مع الشفعاء إلى الدرك الأسفل، وأما غيرهم فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمّة، ووجدناهم يأتمون بهذا الصنف من الأئمة، وأما بعض القَعَدة من الفقهاء الذين لا ينصرون حقًّا، ولا يخذلون باطلًا فلبسوا لبوس القاضي أبي الحسن النباهي الأندلسي في موقفه من لسان الدين ابن الخطيب حين ألّف كتابه في ذم الوثيقة والموثقين ... فتناجَوا بالإنكار علينا، ودافعوا عن هذه الطائفة بما هو أنكى فيها، وأشنع من السب الصريح، وهو "إبقاء الستر مسدولًا على الختر" وهم يعلمون أنه لا تستر إلا العورات، فالقوم- في نظر أنصارهم من الفقهاء- عورات يجب أن تستر، وهكذا تكون النصرة، وهكذا يكون الدفاع.

وما كانت تلك الآبدة التي رميناهم بها من آثار لجاج الجدل المحتدم، ولا كانت سلاحًا مدخرًا لآخر المعركة، ولا كانت منا خطرةً عارضة، ولكننا كنا فيها على يقين من أمرنا، وعلى بيّنة من ربنا، وعلى علم ضروري بما يجري من الفضائح التي رتّبنا عليها ذلك الحكم، فالوظيفة الدينية الإسلامية أصبحتْ عند الحكومة- بتهافت هؤلاء القوم عليها- مشروطةً بالجوسسة، والقوم أصبحوا بها جواسيس على الأمّة على حساب دينها، إلا القليل، ولا حكم للقليل.

ونحن لم نستثن هذا القليل من ذلك الحكم، لأنه إذا حافظ على شرف نفسه في نظرنا ونظر الناس، وعُرف بتوفر شروط الكمال عندنا وعند الناس، فبماذا يتحصن أمام الحاكم حين يريده على شيء مما ينافي الشرف، ما دام عزله وولايته بيده؟

إن كلامنا على عمومه، في الوظيفة على عمومها، لا في الموظف، وما دامت الجوسسة في حكم الحاكم من لوازم هذه الوظيفة، وفي ترجيح طالب على طالب، فلا معنى للاستثناء، ولا قيمة عند الله لاستقامة لم تربأ بصاحبها عن طلب وظيفة دينية من حكومة معتدية على دينه.

كلامنا في أصل القضية، وهو غير قابل للاستثناء، ولا كلام لنا في الفضل والعلم والاستقامة، فنحن أعرفُ الناس بأهلها، وبحظوظهم من العلم أو الفضْل، ولكنهم مغمورون بهذه الطائفة كلها، فليقصر اللائمون لنا على التعميم، وليعرفوا هذه الحقيقة، ولينصفوا الدين قبل الأشخاص إن كانوا مؤمنين، ونحن نرى أن هذه القلّة المحتمية بالفضل غير محمية من غضب الحاكم عليها، واحتقاره لها، ومن إهماله إياها في الاعتبار والمنزلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>