للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن شهد أن البربرية ما زالت قائمة الذات في بعض الجهات، فقد شهد للعربية بحسن الجوار، وشهد للإسلام بالعدل والإحسان، إذ لو كان الإسلام دين جبرية وتسلط لمَحا البربرية في بعض قرن فإن تسامح ففي قرن.

إذا رضي البربري لنفسه الإسلام طوعًا بلا إكراه، ورضي للسانه العربية عفوًا بلا استكراه، فأضيعُ شيء ما تقول العواذل، واللغة البربرية إذا تنازلت عن موضعها من ألسنة ذويها للعربية لأنها لسان العلم وآلة المصلحة، فإن كل ما يزعمه المبطلون بعد ذلك فضول.

إن العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالإسلام ومعه العدل، وجاء بالعربية ومعها العلم، فالعدل هو الذي أخضع البربر للعرب، ولكنه خضوع الأخوة، لا خضوع القوة، وتسليم الاحترام، لا تسليم الاجترام. والعلم هو الذي طوّع البربرية للعربية، ولكنه تطويع البهرج للجيدة، لا طاعة الأمَة للسيدة.

لتلك الروحانية في الإسلام، ولذلك الجمال في اللغة العربية، أصبح الإسلام في عهد قريب صبغة الوطن التي لا تنصُل ولا تحول. وأصبحت العربية عقيلةً حرّة، ليس لها بهذا الوطن ضرّة.

...

ما هذه النغمة الناشزة التي تصك الأسماعَ حينًا بعد حين، والتي لا تظهر إلا في نوبات من جنون الاستعمار؟

ما هذه النغمة السمجة التي ارتفعت قبل سنين في راديو الجزائر بإذاعة الأغاني القبايلية. وإذاعة الأخبار باللسان القبايلي (١). ثم ارتفعت قبل أسابيع من قاعة المجلس الجزائري بلزوم مترجم للقبايلية في مقابلة مترجم للعربية؟

أكل هذا إنصاف للقبايلية، وإكرام لأهلها، واعتراف بحقها في الحياة، وبأصالتها في الوطن؟

كلا. إنه تدجيل سياسي على طائفة من هذه الأمّة، ومكر استعماري بطائفة أخرى، وتفرقة شنيعة بينهما، وسخرية عميقة بهما.

إن هاتين النغمتين وما جرى مجراهما هي حداء الاستعمار بالقوافل السائرة على غير هدى، لتزداد إمعانًا في الفيافي الطامسة، فحذار أن يطرب لها أحد. وإن النغمتين من آلة


١) اللسان القبايلي: نسبة إلى "القبائل"، وهي لهجة بربرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>