للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتح جيلنا هذا عينه، في ظلمات متضرّبة، بعضها فوق بعض، تتخللها بروق معشية، ورعود صاخة، ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف، وصوالجة تتلقّف، وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة، فإذا سبلها وعرة، والصراط إليها أرقّ من الشعرة، وما زال هذا الجيل يتعثّر في أذيال الماضي، ويتخبّط في ظلمائه، ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلّما رام النهوض، وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار، اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته، ولجاج الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته.

حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا، وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه، وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدلي، والتنكّر للقريب، والخضوع للغريب.

حرام علينا أن نقلّدهم هذه الأسلحة المسمومة فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعًا ويسعد بشقائهم الغير.

حرام علينا أن نسلم إليهم شيئًا من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه ويأمن الأحياء شرّها، إذا لم ينالوا خيرَها.

...

السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد عزيمته في طلبها- هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان وتسيطر عليها، وتوجيه الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق والروحانية، فعلى هذه المدرسة يتوقّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل؛ وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا من حقوق أبنائنا وأن نكفر عن سيئات اجترحتها أجيالنا الماضية.

لا نغالط أنفسنا فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم، كافية في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير؛ أو نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد؛ أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى هذه النتيجة المرغوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>