للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تستحسن العقول قتل القاتل، وتؤيّدها الشرائع فتحكم بقتل القاتل، ولكن الاستعمار العاتي يتحدّى العقول لأنه عدوّها، والشرائع لأنها عدوّه، فلا يقوم إلا على قتل غير القاتل ... ويغلو في التألّه الطاغي، فيتحدّى خالق العقول، ومنزل الشرائع، وينسخ حكم الله بحكمه، ورحمة الله بقسوته، فيقتل الشيوخ والزمنى والنساء والأطفال.

أين النعمان بن المنذر ويوماه من الاستعمار وأيامه؟ كان للمنذر يومان: يوم بؤس ويوم نُعمى، وبينهما مجال واسع للبخت، وملعب فسيح للحظ، فإذا طار طائر النحس في أحد يوميه وقع على حائن أتت به رجلاه، أو محدود لم يلتق مع السعد في طريق، أما الاستعمار فأيامه كلها نحسات، بل دهره، كله يوم نحس مستمر، مُحيت الفواصل بين أيامه ولياليه، فكلّها سود حوالك، يطير طائر النحس منها فلا يقع إلا على أمم آمنة مطمئنة؛ وأين قتلى ضمختْ دماؤها الغريين (١)، من قتلى ضمخت دماؤها أديم الأرض، وخالطت البحار حتى ماء البحار أشكل.

...

أمة كالأمم حلّت بها ويلات الحرب كما حلّت بغيرها، وذاقت لباس الجوع والعري والخوف، وتحيّفت الحرب أقواتها وأموالها، وجرّعت الثكل أمهاتها واليتم أطفالها، وأكلت شبابها، وقطعت أسبابها، وصليت نار الحرب ولم تكن من جُناتها، وقدمت من ثمن النصر مئات الألوف من أبنائها قاتلوا لغير غاية، وقتلوا من غير شرف؛ في حين كانت الأمم تقتتل على الملك، والملك مجد وسيادة، وعلى الحرية، والحرية حياة وعزة، أما هذه الأمة فكانت تقاتل لخيال من أمل، وذَماء من حياة، وصبابة من رجاء، وخُلب من وعد علا نداؤه، وتجاوبت في الخافقين أصداؤه، من ديمقراطية زائفة كذبَ نبيّها مرتين (٢) في جيل واحد، فلما سكن الإعصار وتنفّست الأمم في جوّ من السلم، وتهيأت كل أمة أن تستقبل بقايا النار من شبابها، وكلّ أم أن تعانق وحيدها، عاودت الاستعمار ألوهيته وحيوانيته في لحظة واحدة، يحادّ الله بتلك، ويغتال عباده بهذه، وعاد بالتقتيل على من كانوا بالأمس يمدّون حياته بحياتهم، ليريهم مبلغ الصدق في تلك الوعود، ويحدّثهم بلغة الدم ومنطق الأشلاء أنه إنما أقام سوق الحرب ليشتري حياته بموتهم، وليرمّم جداره بهدم ديارهم، فإذا بقي منهم كلب بالوصيد، أو من ديارهم قائم غير حصيد، قضى ذلك المنطق فيه بالإبادة والمحو، وجعل أيامه خاتمة لأيام الدم والحديد، وعطَفه على عدوّ الأمس المشترك عطفًا


١) الغريان: بناءان قرب الكوفة كان النعمان يلطخهما بدماء قتلاه.
٢) نبيُّها: هو الولايات المتحدة الأمريكية. مرّتين: إشارة إلى وعود أمريكا في الحربين العالميتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>