للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لاختلاف المعنيين، ولاختلاف الطبيعتين، ولاختلاف المزاجين وللبعد السحيق في أذهاننا بين معنى "فرنسا" وبين معنى "الإسلام". أما المعنى الذي نفهمه ولا نخطئ في فهمه فهو يتوقّف على كلمة محذوفة بين الكلمتين؛ وتقديرها هكذا: فرنسا الاستعمارية- عدو- الإسلام، والحذف من مذاهب لغتنا، وحذف ما يعلم جائز ...

نعم ... نعم إن فرنسا الاستعمارية عدوّ الإسلام في ماضيها كله، وفي حاضرها، فلم يكتب تاريخها أنها جاورته فأحسنت، أو قدرت عليه فعفت، أو عاملته فصدقت، أو حكمت أهله فعدلت، ودلّ الواقع المشهود على أنه لم يجنِ منها إلا الكيد له بعيدًا، والإضرار به قريبًا، والعمل على محوه في جميع الحالات؛ ويجري علينا حكم المجانين إذا تصوّرنا أن حاضرها في هذا يخالف ماضيها، أو أن آتيها يكون خيرًا من حاضرها؛ لأن ما نقوله عنها صيّره الاستعمار ذاتيًّا فيها، والذاتيات لا تتخلّف، ومنطق الذاتيات لا ينقض.

وما دام هذا هو حظ الكلمتين من فهمنا، فما هو حظ اللجنة من تقديرنا؟ وما هو حظ أعمالها في اعتبارنا؟

...

نحن نعد هذه اللجنة "تدجيلة" جديدة في السياسة الفرنسية الاستعمارية تفتّق عنها ذهن مستشرق "حكومي" (١) من الذين يجعلون الاستشراق ذريعة لاستهواء الشرقيين المفتونين بالغرب، الخاضعة عقولهم وأفكارهم لعقوله وأفكاره، وأنا أسمي ثلة من هؤلاء المستشرقين "حكوميين" تسمية صادقة أصدر فيها عن روية وتثبّت، فما هم إلا أذناب لحكوماتهم، وما هم إلا موظفون أو مستشارون حكوميون، وما هم إلا "تراجمة" للحكومات الاستعمارية وأدلاء، يترجمون لها معاني الشرق، ويدلّونها على المداخل إلى نفوس أبنائه وإلى استغلال أوطانه، وما هم إلا آلات في أيدي وزارات الخارجية، تستعملها لإبطال حق الشرق، وإحقاق باطله، ولبقاء الأمم الضعيفة في الاستعباد، أو إرجاعها إلى الاستعباد.

فالاستشراق في هؤلاء عند الحكومات الاستعمارية معناه معرفة مداخل أوطان الشرق، ودخائل أبناء الشرق، وابتكار الوسائل لاستعمار العقول أولًا والأوطان ثانيًا، فهم روّاد عقليون قبل القوّاد العسكريين: ولذلك نرى هؤلاء المستشرقين الحكوميين يبنون أمرهم في الشهرة بين الشرقيين على الأبحاث العلمية الخالصة، ويغطون ضراوة الحجاج بطراوة "الحلاج"؛ فإذا طارت الشهرة في الآفاق، ووقع على الثقة بهم الإصفاق، أصبحوا سهامًا


١) هو المستشرق لوي ماسينيون.

<<  <  ج: ص:  >  >>