وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقّق وعده، وأنّ في ظل انتدابه، وبأسنَّة حرابه، حقّق صهيون مبادئ حلمه، فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز- وقوانين الإنكليز- وفتن ضعفاءكم بالخوف، وفقراءكم بالمال، حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهَّد الأرض بأيديكم وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم وابتزاز أرزاقكم.
وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنُّوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع، ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعةً إلا في دين الإنكليز؟
وعلمتم أنَّ بريطانيا هي التي جرَّت ضرَّتها البلهاء أمريكا إلى محادَّتكم وجرَّأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات، وأنها هي التي ألَّبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفّف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويهًا بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المُعَزّي ...
يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم، إن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين، وقد لُدِغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا، وخُدعتم من الجانب الإنكليزي كرّات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خُدع خلفكم كما خُدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم، ودعاكم إلى موائده الفِقار فلبَّيتم، وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما آنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلّق بأسبابه.
فيا ويحكم ... أكلّ ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء؟ أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء؟ كلا ... إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخذية، وليسوا أغنياء عنكم، وإنهم لأقوياء بما يستمدُّونه من أرضكم وجيوبكم، فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذُلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمِّروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم؛ إن لبدة الأسد هي بعضُ أسبابه إلى زرع الهيبة في القلوب، ولكنّ لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كلَّ أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمُن وراءها الرهبة، لأمسى الأسد هرًّا مجرود العنق، معروق الصدر، بادي الهزال والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير، فلو عملتم لكنتم أغنياء؛ وإن بدء الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات، وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم، وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد.