للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلّها مستعمرةً واحدة يهودية، بل نستغرب مطالبةَ اليهود بوطن قومي، مع أن فرنسا كلّها وطن قومي لهم، لم يفقدوا فيه إلا الاسم وما أهونه، بل نحن نعتقد أنهم يطالبون من فلسطين بوطن ثان بعد تحصيلهم على الوطن الأول، بحيث يكون لهم من فلسطين وطن، فيه المُنى والأحلام، وإرواء الظمإ التاريخي، وإشباع الهوس الديني، والنكاية في المسلمين بالتسلُّط على قبلتهم الأولى، ويكون ذلك الوطن في الأخير مفتاحَ الشرق، ثم يكون لهم من فرنسا وطن فيه المال والجاه ومُتع الحضارة، والأخذ بناصية التجارة، والسلطان الفعلي على الوزراء والوزارة، والنكاية في الكنيسة المسيحية بالاستيلاء على بنتها البكر.

فعلت فرنسا كلّ ذلك خوفًا من اليهود، أو تأثّرًا بنفوذهم، أو انسياقًا بعصاهم، وهذا هو الصحيح، ولم تفعله مجاملةً لهم، إذ لو كان للمجاملة هنا مجال لكان العرب والمسلمون أحق من تُجامله فرنسا، وهي التي طالما رفعت صوتها- في معرض الافتخار- بأنها دولة إسلامية.

في المغرب العربي الذي تتحكّم فيه فرنسا، وتستأثر بخيراته، وتستميت في سبيل الاحتفاظ به، خمسة وعشرون مليونًا من العرب المسلمين، وكلهم أعطوا فرنسا ولم يأخذوا منها، في حين أنّ اليهود أخذوا منها كل شيء، ولم يُعطوها شيئًا، ولكل هذه الملايين هوًى في فلسطين، واعتقادٌ لعروبة فلسطين، ووشائج قربى مع عرب فلسطين، فكان واجب السياسة والكياسة معًا يتقاضى فرنسا أن تراعي عواطفهم نحو فلسطين، وأن تتباعد عن كل ما يجرحها، وأن تتّخذ من ذلك كلّه ذريعة للحياة، ولو فعلتْ لربحت من إرضاء هذه الملايين من القلوب ما هو أعود عليها بالخير من دولارات أمريكا، ولكنها لم تفعل ولن تفعل لأن الأمر ليس بيدها.

...

من الغريب أن الفرنسي الرسمي يسهل عليه أن يقول: إن فرنسا دولة إسلامية، مع أنه ليس للمسلمين أية يد في تسيير الدولة، ولا يسهُل عليه أن يقول: إنّ فرنسا دولة يهوديّة، مع أن اليهود فيها هم كلّ شيء، وهو يقول الأولى رياءً أو افتخارًا، ولا يقول الثانية أنفةً أو احتقارًا. فما أشبه الفرنسي في هذا الباب بالمتألِّه المغرور، يلعنُ الشيطان وهو متبع لخُطواته.

<<  <  ج: ص:  >  >>