للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقرب من الموبقات، واحتدمت جوانبي من التفكير في ما هم فيه من سدر، لا يملكون معه الورد ولا الصدر، وذكرتُ كيف يعيشون على الخيال، المُفضي إلى الخبال، وكيف يحيون في الظلام، على الكلام، وكيف يسترون عوراتهم بالأكفان البالية، وكيف يحتقرون زمنهم في جنب الأزمنة الخالية، والزمن غيران، يضن بخيره على أبناء غيره (١)، وكيف استخفّهم علماؤهم وزعماؤهم وكبراؤهم وملوكهم فأطاعوهم في معصية الله، وقادوهم إلى النار فانقادوا بشعرة، وكيف يلقَون أعيادهم التي هي موقظات عزائمهم بهذه التقاليد الزائفة، والعادات السخيفة، والمهازل التي تطمس معالمها، وتُشوّه جمالها، فأجدني بذلك كله كأنني من قومي أعرابيٌّ بين أنباط، أفهم من لفظ العيد غير ما يفهمون، أو كأنني فيهم بقية جاهلية لا أفهم من معنى العيد إلا ما يفهمه شعراؤها الغاوون، من همٍّ يعتاد النفوس، وجوىً يلزم الحيازيم وذكرى خليط مزايل؛ يُثيرها غراب يثوّب، ويهيّجها طيف يؤوّب، وتؤجِّجها الأثافي السفح والأطلال الدوارس.

...

وقومي هم العرب أولًا، والمسلمون ثانيًا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمّة تفكيري.

أفكِّر في قومي العرب فأجدهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكّرون، وأراهم لا ينقلون قدمًا إلى أمام، إلا تأخّروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمَة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلّى بحلاهن، فحصرت همّها في إثارة غيرة حرّة على حرّة، وتسخير نفسها لضرّة، نكايةً في ضرّة، وأفكّر في علّة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرّق المبيد لهم، فأجدها آتيةً من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوّقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذلّ، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبّوا الحياة الدنيا فرضوا بسفسافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يُقم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم، وأصبحوا يتوهّمون كل حركة من إسرائيل، أشباحًا من عزرائيل.

وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورًا بلا لباب، وألفاظًا بلا معان؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل


١) يعني أنهم ليسوا من أبناء هذا الزمان، فهم متقدّمون عنه بأفكارهم وعقولهم، أو متأخرون عنه بقرون.

<<  <  ج: ص:  >  >>