للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نطلق عنانه. والفن، بلا ضن، نروّق دنانه. والنادرة، بلا بادرة، نتلقفها. والنكتة، بلا سكتة، نتخطفها.

ويا تُربة الدحداح، بوركت من تربة، لا يذوق الغريب فيها مرارة الغربة. ولا زلت مسقطًا لرحمات الله. إنني أودعت ثراك أعزّ الناس عليّ: أبي وابني وجدَّي أولادي. فاحفظي الودائع إلى يوم تُجزى الصنائع.

ويا جنات الغوطة، وقراها المغبوطة، لا زلت مجلى الفطر، والحد الفاصل بين البدو والحضر، أشهد ما عشوتِ من الغرب إلى نار، ولا عشيت منه بنور. ولأنت التي تمسكين دمشق أن تميد، ومن فيها أن يميل. تبارك من رواك بسبعة أودية، وكساك من وشي آذار بخضر الأردية. كم فُتنتُ بمناظرك الشعرية، وأخذت بمجاليك السحرية، وكم تزوّدت عيناي فيك بروضة وغدير، وكم تمتّعت أذناي من جداولك وأشجارك بحفيف وهدير.

ويا يوم الوداع ما أقساك، وإن كنت لا أنساك. لا أنسى بعد ثلاثين سنة ولن أنسى ما حييت موقف الوداع بمحطة البرامكة والأستاذ الخضر يكفكف العبرات، وتلامذتي الأوفياء: جميل صليبا، وبديع المؤيد، ونسيب السكري، والأيوبي، يقدّمون إلي بخطوطهم كلمات في ورقات، ما زلت محتفظًا بها احتفاظ الشحيح بماله.

عهود لم يبق إلا ذكراها في النفس، وصداها في الجوانح، والحنينُ إليها في مجامع الأهواء من الفؤاد. ولولا أن السلوّ كالزمن يتقادم، وأن الهوى مع العقل يتصادم، لقلت مع المتنبي: أبُوكم آدم (١)! ... ولقد راجعتُ "مذكّراتي" المنقوشة في ذاكرتي فوجدتُها حافظة لتلك العهود بأيامها ولياليها وأحاديثها، فليت شعري أيذكر الأحياء من إخوان الصفا مثل ما أذكر؟ ذلك ما تكشف عنه رسالة الأخ الأستاذ محمد بهجة البيطار التي ننشر بعضها بعد هذه الكلمات. وهي التي أثارت هذه الذكريات في نفسي فكتبتها، ليعلم هذا الجيل الذي نقوم على تربيته أن في الدنيا بقايا من الوفاء والمحبة، تتماسك بها أجزاء هذا الكون الإنساني، وأنه لولا هذه البقايا لانحدر الإنسان إلى حيوانية عارمة كالتي بدت آثارها في الجماعات التي جفّت نفوسها من الوفاء والمحبة، فخلت من الإحسان والرحمة، فهوت بها المطامع، إلى ما يراه الرائي ويسمعه السامع. وإن منبت الوفاء الشرق، وإن زارعه وساقيه والقيّم عليه هو الإسلام، وعسى أن تحمل «البصائر» هذه الذكريات إلى الإخوان الأصفياء في دمشق فنتنادم على البُعد، ونلتقي على الذكريات، ونتناشد:


١) يقول المتنبي في قصيدة شِعب بَوَّانٍ:
يَقُولُ بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصَانِي ... أَعَنْ هَذَا يُسارُ إِلَى الطِّعانِ
أَبُوكُمْ آدَمٌ سَنَّ المَعَاصِي ... وَعَلَّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>