ولكن هل أنصفنا أخانا مباركًا، وأنصفنا العلم معه إذا كان حظه منا بعد موته ذكريات تقام في كل عام، لا ذكرًا يتردّد في كل يوم، وكلمات عنه تقال فتذهب مع الريح أو تكتب فتدفن مع الأوراق؟ ذلك هو السؤال الذي كان يعتلج معناه في الصدور، وتختلج ألفاظه على الألسنة قبل أسبوعين، فقد كنت قبيل يوم الذكرى في جماعة من إخوان العهد، وأبناء الوفاء، نتذاكر في ذكرى هذه السنة، لأخينا مبارك، وما ينبغي أن نسلكه فيها من المسالك: آحتفالٌ يقام وخطب تلقى كالمعتاد؟ إن هذا تقليد مملول، أساء الناس تصريفه، وأساءوا التصرّف فيه، حتى أصبح لا يحرّك إحساسًا، ولا يثير عاطفة، ولا يهزّ شعورًا، ولا يأتي بخير، أصبح نوبة تعتاد، لا باعثًا يقتاد.
وتشعّب القول، فتشعّب الرأي حتى قال قائل حصيف: إن خير البر وأبقاه، وأحسن الذكر وأوقاه، ذلك الصنيع الجليل الذي أحيينا به ذكر عبد الحميد بن باديس، وإن المعهد لأبلغ من ألف خطبة تقال، وأسير من ألف مقالة تنشر، وأنفع للأمّة من ألف احتفال يقام، وأدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل لعبد الحميد بن باديس من ألف شاهد، فهلّا سلكنا في إحياء ذكر أخينا مبارك شِعبًا غير شعب الاحتفالات والمقالات؟ وهل عدلنا بأعمالنا وعظمائنا عن هذه المبتذلات؟ ...
وكانت هذه الكلمات الحصيفة التي تنطوي على رأي، وتحتوي على حكمة، مغيرةً للحديث من مجرى إلى مجرى، فبردتْ الحمية للاحتفال والخطب والمقالات، ورحنا ندير القول في الذكر الدائم، لا في الذكرى العابرة ...
...
إن لأخينا مبارك الميلي على «البصائر» حقًّا، فقد تولّى إدارتها فأحسن الإدارة، إلى أن عطّلتها الحرب الأخيرة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصر عن شأو، ولا كبا دون غاية، وهي كانت ميدانًا لنشر كتابه (الشرك ومظاهره) فصولًا، وجمعه كتابًا، ولكن ماذا عسى أن تقوم به «البصائر» في وفاء هذا الدين الذي عليها لمبارك الميلي؟ ... إن مقالةً أو مقالات تنشرها عنه في السنة- وهي كل ما تستطيع- لا تخلص ذمة، ولا تفي بدين، وإنما تملك «البصائر» التوجيه والإعداد.
وإن لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقًا، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضلّ الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفتري، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه.