للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا نصرناه بما نملك من كلام فلأنه ملك مسلم مظلوم ... مظلوم في أمّته، ثم مظلوم ببعض أمّته، وليس في أنواع الظلم أحزّ في الصدور من هذا النوع، وليس فيها أدعى لانتصار ذوي النخوة العربية والشهامة الدينية من هذا النوع.

...

نعرف عن جلالة السلطان محمد بن يوسف كل ما يجب أن يعرفه عالم مسلم، حرّ الفكر، مستنير البصيرة، موقوف المواهب على خدمة الإسلام، وإصلاح المسلمين عن ملك مسلم ممتاز بين ملوك المسلمين- في عصر كثر فيه الملوك- خصوصًا في هذه الرقعة العربية- كثرةً معاكسة لسير الزمن، منافرة لسيرة أبناء الزمن، فكانوا وباء للأجساد، ووبالًا على الأرواح، وجائحة مرسلة على الأموال، ومطايا يستعملها الأجانب لاستغلال الأوطان، ثم للاستيلاء عليها.

نعرف عنه دراسةً، ونعتقد فيه وجدانًا، ونشهد منه عيانًا، ما يرفعنا عن الأخذ فيه بالتقليد، ويربأ بنا أن ننتقل في الحكم عليه من رأي قديم إلى رأي جديد، كما تربأ بنا عادتنا في الحُكم على الرجال، أن نحابيه أو نتعصّب له، جريًا مع هوى غالب، أو انتصارًا لمذهب جامع.

فالنتيجة التي انتهتْ إليها الدراسة، واطمأن لها الوجدان والعيان في هذا الملك العظيم حقًّا، هي أنه ملك مسلمٌ صحيح الإسلام، مؤمن متين الإيمان، سلفي العقيدة والتعبّد، قديم في دينه، جديدٌ في دنياه، مجدّد مصلح في الدين والدنيا، واسع الاطلاع على أحوال زمنه، يقظان العقل في أسرار السياسة المحيطة به، شجاع الرأي في الجدل المحتدم فيها، يمارس من الأجانب هولًا واحدًا،- ومن الأقارب أهوالًا، يعمل لشعبه دائمًا، ويعمل لنفسه قليلًا لمعنى يرجع إلى شعبه، وهو أن يرسم لهم خطوط الاقتداء والتأسي، ومن رأينا فيه أنه لو تأتت له الوسائل ولاينته الظروف، لطوى مراحل التقدّم بالمغرب في مرحلة.

هذه الخلال هي سر عظمته عندنا، وهي سر حبنا إياه، وإعجابنا به، وانتصارنا له، ولو أنّي حكمتُ هذا الحكم قبل أن أجتمع به في الرحلة الأخيرة إلى باريز، لكان فيه شوبٌ من التقليد والاتكاء على السماع الذي شان العقائد، وأفسد التاريخ، وغطّى الحقائق؛ ولكنني طابقت بين السماع والعيان، وصحّحت الاستدلال في تلك الساعة التي تحدثتُ فيها إليه، وتحدث إليّ، مجردًا من الكلف والرسميات، في بلد غربة وموطن حريّة، وقد زُوِيت في تلك الساعة القصيرة، أطراف تلك النفس الكبيرة، وكانت ساعةً من تلك الساعات المعدودة في التاريخ، التي يلتقي فيها عالم مسلم، بملك مسلم، فلا يجري على لسانيهما إلا ما يرضي الله، وينفع الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>