للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقرب طريق لتعطيل غرائز الشرّ في الإنسان، وفرق عظيم بين من يمنعه من السرقة مثلًا خوف الله، وبين من لا يمنعه منها إلّا خوف القانون: فالأوّل يعتقد أنه بعين من الله تراقبه في السرّ والعلن، فهو لا يسرق في السرّ ولا في العلن، والثاني لا يمنعه من السرقة إلّا قانون يؤاخذ على الذنب بعد قيام البيّنات عليه، وفي قدرة الإنسان أن يتحاشى كلّ أسباب المؤاخذة الظاهرة، فإذا أمن ذلك قارف الشر مُقْدِمًا غير محجم، فالخوف من الله يَجْتَثُّ السرقة وجميع الشرور من النفس حتى لا تخطر على بال المؤمن الصادق، وبذلك يأمن الناس على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، أما الخوف من القانون فربّما زاد الناس ضراوة بالشرّ بما يتفنّنون فيه من الحِيَل التي تجعلهم في مأمن من مؤاخذة القانون، فكأنّ هذه القوانين الأرضية تقول للناس: لا سبيل لي عليكم ما دمتم مستترين منّي، غائبين عن عيني، ولذلك فهي لا تمنع الفساد في الأرض بل تزيده تمكّنًا فيها، وانتشار الشرور في هذا العصر أصدق شاهد على ذلك.

...

نقول ونعيد القول بأن أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام، ولا نلتفت لسخر الساخر، ولا نأبه لدهشة المندهش، ونأتي بالحجّة على لون آخر، وهو أن الإسلام عقائد وعبادات وأحكام وآداب، وكل هذه الأجزاء رامية إلى غرض واحد، وهو إصلاح نفس الفرد الذي هو أصل لإصلاح النفسية الاجتماعية، فعقائد الإسلام مبنية على التوحيد، والتوحيد أقرب لإدراك العقل الإنساني من التعدد، وأدعى لاطمئنانه وارتكازه وتسليمه، والعقل إذا اطمأن من هذه الجهة انصرف إلى أداء وظيفته مجموعًا غير مشتّت.

والعبادات غذاء وتنمية لذلك التوحيد وعون على تزكية النفس وتصفيتها من الكدورات الحيوانية، والأحكام- ومنها الحدود- ضمان للحقوق، وحسم للشرور، وزجر للثاني أن يتّبع الأوّل، ومَن تأمّل القواعد التي بنيت عليها أحكام المعاملات في الإسلام علم ما علمناه، وهي: لا ضَرَرَ ولا ضِرَار، الضرورات تبيح المحظورات، ما أبيح للضرورة يُقدر بقدرها، درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، الحدود زواجر وجوابر، القصاص حياة.

والآداب تزرع المحبّة بين الناس، وترقق العواطف، فتقوي عاطفة الخير والتسامح والإيثار والكرم والشجاعة والصبر، وتضعف عاطفة الشر والتشدّد والأثرة والبخل والجبن والجزع.

...

العالم اليوم في احتراب وحبله في اضطراب، وقد ملكتْ عليه المادة أمره، وقد جفّت الروحانية فيه فضؤلتْ، فلم يبق لها سلطانها الآمر الناهي، وانطمست فيه البصائر الهادية فهو يتخبّط في ظلمات، وتجسّمت المطامع الشوهاء فتولت القيادة، وقد جرّ على نفسه في ثلاثة عقود من السنين حربين عاتيتين أهلكتا الحرث والنسل وهو يتحفَّز للثالثة، وقد كان قبل اليوم

<<  <  ج: ص:  >  >>