تظاهرها بالقوة على العزل، وبالقدرة على العجز في وقت لم تعد تنفع فيه القوة الحقيقية فضلًا عن الوهمية.
والمقاومة الحقيقية الموجودة في الجزائر هي مقاومة أهداف الاستعمار، وقد نجحت إلى أقصى حدود النجاح. فهو قد عمل في مئة سنة على محو آثار الإسلام من النفوس بقتل أخلاقه المتينة وعقائده الصحيحة، وعلى محو عزة العروبة من النفوس، ومحو بيانها من الألسنة والقرائح، وقد كاد ينجح، ولو نجح لتمّ له ما يريد بعد مئة سنة أخرى من فرنسة الجزائر وجعلها مسيحية الدين لاتينية الجنسية. ولكن جمعية العلماء هي التي وقفت له في هذا السبيل وسدّت عليه منافذ أغراضه الخبيثة فنبتت للإسلام قواعده وأحيت العربية ورجعت بها إلى أسبابها، فالجزائر اليوم عربية مسلمة على أصحّ ما تكون قواعد العروبة وأصدق ما يكون الإسلام، ولا نبالغ إذا قلنا ان جمعية العلماء انتصرت في هذا الميدان بجهادها وعملها المتواصل في تحرير الإسلام بالجزائر من عدوين متعاونين عليه، عدو من أبنائه الذين شوّهوا حقائقه بالضلال والتخريب، وعدو من خارجه، وهو هؤلاء المستعمرون الذين غزوه بالجندي والمبشّر، والسياسي والحاكم. وان الاستعمار هو أول الشاعرين بهذه الحقيقة، وهي أن جمعية العلماء هي التي قطعت عليه الطريق إلى هذه الغاية، وان عداوته لجمعية العلماء موزونة بهذا الميزان، فهو لا يخاف من الحركات السياسية المحضة خوفه من حركة جمعية العلماء، لأنه يستطيع أن يقمع تلك الحركات بالقوة أو بغيرها من الأساليب، ومنها الإرضاء والمساومة على الكل بالجزء وعلى الكثير بالقليل، أما حركة جمعية العلماء فقد غرزت في الأرواح ورسّخت في مستقرّ الإيمان، وهي بعد ذلك كلّ لا يتجزأ فإذا لم تنجح فهي لا تستسلم.
وليست حركة جمعية العلماء حركة دينية محضة بالمعنى المفهوم من أمثالها في الشرق الإسلامي، وإنما هي حركة كلية لها طرفان: أحدهما الدين بعقائده وأخلاقه وفضائله وروحانيته، والثاني الدنيا بقوّتها ومالها وعزّتها وسيادتها وعلومها، ولا فاصل بين الطرفين، ولا وجود لأحدهما بدون الآخر.
ولقد تشابهت السبل على الاستعمار في فهم هذه الحركة لعدم فهمه لحقائق الإسلام ولقياسه إياها على أمثالها في الشرق الذي ضعف فيه سلطان الدين. بهذا الاضطراب في الفهم حكم عليها بأنها حركة سياسية متسترة بالدين، وحاربها على هذا الأساس، وهو واهم في هذا أو متعمّد للكذب، فما كنا يومًا متسترين بالدين وإنما نحن عاملون على إحياء الإسلام بجميع ما فيه، فإذا كان في الإسلام كل شيء فنحن لذلك عاملون، وعلى ذلك فنحن لا نقف عند هذه الوطنيات الضيّقة المحدودة التي هي من آثار الاستعمار لا من آثار الإسلام، بل نعمل على قدر الإمكان لجمع هذه الأوصال الممزقة على كلمة الإسلام، وجمعها في حظيرة واحدة كما هي غاية الإسلام. ولسنا نتأرك في هذا أو نتستر.