للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن ما هو هذا القرآن الذي نكرره في كل سطر؟

أهو هذه (الأحزاب الستون) أو (الأجزاء الثلاثون) التي نحفظها وننفق على حفظها سنوات الطفولة العذبة، وسنوات الشباب الزهر. ثم لا يكون حظنا منه عند هجوم الكبر إلا قراءته على الأموات بدريهمات، واتخاذه جُنة من الجِنَّة وغير ذلك من الهنات الهينات؟ إن كان هو هذا فَلِمَ لم يفعل في الآخرين فعله في الأولين؟ ولمَ نرى حفاظه اليوم- على كثرتهم- أنقى الناس من هذه المعاني التي كان القرآن يفيضها على نفوس حفاظه بالأسى؟ ونجدهم دائمًا في أخريات الناس أخلاقًا وأعمالًا حتى لقد أصبحوا هدفا لسخرية الساخر، يتكسبون بالقرآن فلا يجديهم، ويقعون في المزالق فلا يهديهم، مع أنهم يقرأون فيه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.

فنعم: إن القرآن هو هذه الأحزاب الستون التي نقرأها اليوم بألفاظها وحروفها ونقوشها، منقولًا بالتواتر القطعي، محفوظًا بحفظ الله من كل ما أصاب الكتب السماوية من قبله من النسيان والتبديل وتحريف الكلم عن مواضعه. كبر بتواتره عن الاسناد والمسندين، وشهادة المعدلين والمجرحين، قد نيّف على ثلاثة عشر قرنًا ولم يشك المسلمون في حرف منه فضلًا عن كلمة، وفي الأرض عدد حصاها أعداء له يتمنون بقاصمة الظهر أن لو ينطفئ نوره، ويستسر ظهوره، ويرضخون في سبيل محوه من الأرض بما كسبت الأيدي واحتقبت الخزائن من الأموال، وبما أخرجت بطون النساء من الرجال، وبما أنتجت القرائح من مكر واحتيال وكيد ومحال. فلم ينالوا منه نيلًا إلا مضضًا تنطوي عليه جوانحهم، ووغرًا تنكسر عليه صدورهم، وشجى تنثني عليه لهواتهم، وحقدًا تغلي مراجله في نفوسهم، وقد أبقاهم الله وأبقى لهم منه المقيم المقعد وهم بهذا الحال وهو بهذا الحال إلى يومنا هذا، فلينم المسلمون ملء جفونهم، ولينعموا بالًا من هذه الناحية، وليعلموا أن القرآن أُتِيَ من قبلهم ...

ولكن سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف الذي نحفظه، ولا في هذه التلاوة الشلاء التي نتلوها، وليس من المقاصد التي أنزل لتحقيقها تلاوته على الأموات، ولا اتخاذه مكسبة، والاستشفاء به من الأمراض الجسمانية.

وإنما السر كل السر في تدبره وفهمه، وفي اتباعه والتخلق بأخلاقه. ومن آياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، ومن آياته {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} و {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}.

<<  <  ج: ص:  >  >>