للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفية المَسَارِب، غرّارة الظواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضيف فلا تلبث أن تطرد رب الدار ...

فقد علماء الدين مركزهم يوم أضاعوا الفضائل التي هي سلاح العالم الديني، وأمهاتها الشجاعة والقناعة والعفة والصبر، وإن تجرّدهم من هذه الفضائل ليرجع في مبدإ أمره إلى خدعة من أمراء السوء المتسلطين حينما ثقلت عليهم وطأة العلماء وقيامهم بالواجب الديني في الأمر والنهي، وعلموا أن العامة تبع للعلماء، وأن سلطان العلماء أقوى من سلطانهم وأن كلمة مؤثرة من عالم مخلص تقع في مستقرّ التصديق من العامة قد تأتي على السلطان الحاكم المتسلّط، فسوّلت لهم أنفسهم أن يحدّوا من هذا التأثير الواسع القوي، فأخذوا يروّضون علماء الدين على المهانة، وألصقوا بهم الحاجة إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا، ليجعلوا من ذلك مقادة يقودونهم بها إلى ما يهوون، ثم ربّوهم على الطمع والتطلعّ إلى الاستزادة ومدّ الأعين إلى زهرة الحياة الدنيا، فزلّوا ثم ضلّوا ثم ذلّوا، وتعاقبت الأجيال وتقلبت الأحوال، فإذا العالم الديني تابع لا متبوع، ومقود بشهواته لا قائد، يراد على العظائم فيأتيها طائعًا، يتحيّل على دين الله إرضاءً للمخلوق، ويحلّل ما حرّم الله من دماء وأموال وأعراض وأبشار، يشتري بذلك جاهًا زائلًا، وحائلًا حائلًا، ودراهم معدودة.

ومن الكيد الكبار الذي رمى به الأمراء المستبدّون هؤلاء العلماء الضعفاء في العصور الأخيرة أنهم يعفونهم من الجندية التي هي حلية الرجال، وأن في قبول العلماء لهذا الإعفاء وسعيهم له لشهادة يسجّلونها على أنفسهم بفقد الرجولة، وقد استطابوا هذا الإعفاء وأصبحوا يعدّونه تشريفًا لهم وتنويهًا بمكانتهم ومعجزة خصّوا بها، ودليلًا تقيمه الحكومات الإسلامية على احترامها للعلماء ... فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين، ما كانوا ليعفوا عالمًا من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلًا عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبّب له أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد. والعالم الديني- دائمًا- في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعدون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين.

أيها العلماء:

هذا قليل من مساوينا، فلا تظنّوا أني متجنٍّ أو متزيِّد، كونوا منصفين للدين من أنفسكم، إني أحاكمكم إلى ضمائركم حين تستييقظ فيها معاني الإرث النبوي والاستخلاف المحمدي. أليس من الحق أن هذه المساوئ وأمثالها معها مجتمعة فينا؟ ألسنا نأمر الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>