مولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد تلك التعاليم التي حرّرت العقل والفكر وسمت بالروح إلى الملإ الأعلى، بعدما تدنت بالمادة إلى الحيوانية، وبالشهوات إلى البهيمية، وبالمطامع إلى السبعية الجارحة.
ومولد محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مولد الإسلام والقرآن وذلك الفيض العميم من المعاني التي أصلحت الأرض ووصلتها بالسماء وفتحت الطريق إلى الجنة.
فقولوا لمن جاء بعد محمد من زاعم يزعم الانتصار للحق، وزعيم يهتف بالحق وداع يدعو إلى الحرية، ودعيّ يكذب على الحرّية، وعاقل يبكي على العقل، ومفكّر يجهد في تحرير الفكر، وروحاني يعمل لسمو الروح، وأخلاقي يضع الموازين للمثل العليا، وحاكم يحاول إقامة العدل في الأرض، وحائر لا يدري من أين يبتدئ ولا أين ينتهي، قولوا لهم جميعًا: قد سبقكم محمد إلى هذا كله، وقد نصب لكم بقرآنه وسيرته أعلام الهداية في كل مصعد وكل منحدر، ولكنكم قوم لا تفقهون أو لا تصدقون، فارجعوا إليه إن كنتم صادقين تجدوه منكم قريبًا.
هذه هي المعاني التي يجب أن نستشعرها حينما نذكر المولد، وحينما نحتفل به، أما ما عدا ذلك مما نفعله ونقوله فزوائد لا قيمة لها في العقول ولا أثر لها في النفوس.
وهذه هي المعاني التي يجب أن نعدّ أنفسنا للتأثّر بها حتى نلين قيادها للخير وندمّث وعورتها لتلقيه وللعمل به، ولا يكون ذلك إلّا إذا مررنا بها على مواطن العبرة فيها، واستدرجناها لحسن الاقتداء بها وإتقان الاحتذاء لها.
لو فهمنا المولد المحمدي بهذه المعاني لكان إظلاله لنا في كل عام تجديدًا لهممنا، وإيقاظًا لشواعرنا، وصقلًا لأذهاننا، وجلاءً لأرواحنا، ولكانت آثار ذلك سموًّا في أرواحنا، وسدادًا في آرائنا، وتحوّلًا إلى الخير في أحوالنا، وجمعًا لكلمتنا على الحق، وتوحيدًا لصفوفنا في النوائب.
ولكننا فهمناه على قياس من عقولنا وهي جامدة، وعلى نحوٍ من هممنا وهي خامدة، وعلى نمط من عاداتنا وهي سخيفة، وقصرناه على هذه التوافه: لعب للصغار ليس فيها فائدة وخطب للكبار ليس فيها عائدة.
فعلنا بمولد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما فعلناه بسيرته فاقتصرنا في كليهما على أضعف جانبيه، فنحن في مولده نلهو ونلعب، وقد نفرح ونطرب، ونعمر يومه وأسبوعه بحفلات تقليدية ليس فيها روح، كذلك نحن نتدارس سيرته التي هي التفسير العملي للإسلام فلا ندرس إلّا جانبها البشري من كيفية أكله ولباسه ونومه، لا جانبها الملكي من صبره وجهاده وتربيته لأُمّته، وبناء الدولة الإسلامية.