ولي- أيها الإخوان الكرام- من الصلات المكتسبة بهذا المجمع أن أكثر الأعضاء الذين هم عُمَدُه ودعائمه من أصدقائي الذين أعْتزُّ بصداقتهم، وأعتدّ بعلمهم وإدراكهم لحقائقه، فأستاذنا المرحوم محمد كرد علي، وأستاذنا الشيخ الإمام عبد القادر المغربي، والأستاذ الشاعر خليل مردم بك، وصديقنا العالم الشيخ محمد بهجت البيطار، والأستاذ الدكتور جميل صليبا، وغيرهم، كلّهم من الجواهر التي عرفت قِيَمها، وكلّهم من الدوائح التي استمطرتُ دِيَمها، بل كلهم من السلائل التي عرفت خيمها قبل أن أعرف خِيمَها. ولم لا، وأنا مجنون هذه الأمّة العربية، المفتون بماضيها وحاضرها، فإذا كنت أفخر بأنّني أعرف من قبائلها الغابرة حتّى السكوف والسكاسك، وأعرف من منازلها الدائرة حتّى اللّوى والدكادك، فكيف لا تزدهيني معرفة رجالها الحاضرين الحاملين لراياتها ورواياتها، وكيف لا أفخر بصداقة أعلامها في الوقت الحاضر، وما منهم إلّا مَن نظم فيها ونثر، وما كبا في ميادينها ولا عثر، وأَحْيَا مِن معالمها ما اندثر، وانبط العين بعد أن خص الأثر.
لو سألتموني- أيها الإخوان- ماذا أحبْبتُ من الأمّة العربية ولماذا أحببتُها هذا الحبّ الذي بلغ درجة الافتتان، وأوّلها جاهلي وآخرها جاهلي، لَأَجبتُ جوابًا يأكل الأجوبة كلّها ويُسكت الشقاشق الهادرة، وهو أنني أحببت منها ما أحبَّ الله منها يوم أنزل وَحْيَه الكامل بلسانها، واختار رسوله الخاتم من أبنائها، وحسبي شرفًا وتوفيقًا أن أحبّ ما أحبّ الله، وإذا كانتْ في أوّلها ضالّة فقد هداها القرآن يوم عرفته، وإذا رجَعتْ إلى ضلالها القديم فسيرجع القرآن بها يوم تعرفه إلى الهداية، رغم أنف أوروبا وتلامذتها المغرورين بها، ورغم أسواقها العامرة بكل شيء إلّا الهدى، وأبواقها الفارغة من كل شيء إلّا الصدى.
أيها الإخوان: إنّ العلم بين أهله رحم يجب أن تبل ببلالها، وغير كثير على ذويها أن يتعارفوا وأن يتلاقوا على صلة تلك الرحم، وأن يتعاونوا على البر بها، وأن يتعاهدوها بالإشاعة بعد الإضاعة، وأن يتنازعوا أمر العلم بينهم، فينفوا عنه تحريف الجاهلية وانتحال المبطلين.