للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاختلّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح، وغلت طوائف أخرى في تمجيد العقل فاستشرف إلى ما وراء الحدود المحددة له، وتسامى إلى الحظائر الغيبية فتشعبت به السبل إلى الحق في معرفة الله وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين لكثرة هذه الطوائف، فكان هذا التفرّق الشنيع في الدين أصوله وفروعه. وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين ضاع سلطانهم الديني على الأمة، فاستبدّ بها الملوك وساقوها في طريق شهواتهم فأفسدوا دينها ودنياها وكان ما كان من هذه العواقب المحزنة.

ومن الثاني تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات الوضع للأحاديث، إلى هجوم الآراء والمعتقدات المنافية للقرآن، إلى ما ادّخر لزماننا من إلقاء المبشّرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد ليصدّوا المسلمين عن هديه، وان خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوّره علماؤنا، ويقدّره أولياء أمورنا.

هذه العوامل مجتمعة ومفترقة، وما تبعها أو لازمها من عوامل فرعية هي التي باعدت بين المسلمين وبين قرآنهم، فباعدت بينهم وبين الخير والسعادة والعزة، وأصبحوا- كما يرى الرائي- أذلة مستعبدين، ولا يزالون كذلك ما داموا مجانبين لسنن القرآن، معرضين عن آياته وإرشاداته، غافلين عما أرشد إليه من السنن الكونية. ولو أنهم تواردوا على الاستمساك به في هذه القرون الأربعة عشر لكانوا هم السابقين بإرشاده إلى اكتشاف أسرار الكون، واختراع هذه العجائب الآلية، ولم يكن موقفهم منها موقف المكذب أولًا، المندهش آخرًا. ففي القرآن آيات للمتوسمين، وإرشاد للعقل البشري يتدرّج مع استعداده، وفيه من الكشف عن غرائب النفوس وألوانها، وعن حقائق الكون وأسرار مواليده ما يسير بمتدبّره رويدًا رويدًا حتى يضع يده على الحقيقة، ويكشف له عن وجهها، ويكاد يكون من البديهيات فيه ما يقرره في أطوار الأجنة، وتزاوج النبات، وتكوّن المطر، وتصاريف الرياح، وتكوير الليل على النهار، وإثبات الصلة بين علويات هذا الكون وسفلياته، ولكن المسلمين ظلّوا غافلين حتى عن هذه البديهيات، إلى أن جاءتهم من غير طريق قرآنهم، ثم دلّهم القرآن على نفسه فلاذوا بالفخر الكاذب، وربّما دلّهم على مواقع هذه الأشياء في القرآن مَن ليس من أهل القرآن، وأن هذا لهو الخذلان المبين.

وما زاد المسلمين ضلالًا عن منبع الهداية وعماية عنها إلا فريق من العلماء وضعوا أنفسهم في موضع القدوة والتعليم، وطوائف من غلاة المتصوّفة انتحلوا وظيفة التربية والتقريب من الله. فهم الذين أبعدوهم عن القرآن، وأضلوهم عن سبيله بما زّينوا لهم من اتباع غير سبيله، وبما أوهموهم أنه عالٍ على الأفهام، وما دروا بأن من لازم هذا المذهب كفر، وهو أنه إذا كان لا يفهم فإنزاله عبث، وأنى يكون هذا؟ ومنزله- تعالت أسماؤه-

<<  <  ج: ص:  >  >>