للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوضعية قرار، فاضطربت حياتها، واستشرفت نفوسها إلى قانون سماوي يحفظ حقوقها، ويحدّد للفرد حقّه، وللجماعة حقّها. ولعمري ان هذه المطالب كلها لفي القرآن، لو وجد القرآن من أهله من يقيمه ويبلغ دعوته وينشر هدايته.

...

ثم ما هذه النغمات الناشزة عن هذا الايقاع اللذيذ، إيقاع الدعوة إلى إقامة الدستور القرآني؟ ما هذه النغمات الممجوجة المترددة التي تصور أن الدستور القرآني يتحيف حقوق الأقليات المساكنة للمسلمين أو يجحف بها؟ ... إنها نغمات صادرة عن مصدرين: أعداء القرآن ينصبون بها العواثير في طريق الدعوة إليه، وضعفاء الصلة بالقرآن الجاهلين آثاره وتاريخه في إصلاح الكون كله، فليقل لنا الفريقان: متى ظلم القرآن غير المؤمنين به؟ ومتى أضاع لهم حقًا، أو استباح لهم مالًا، أو انتهك لهم عرضًا، أو هدم لهم معبدًا، أو حملهم على مكروه في دينهم، أو أكرههم على تغيير عقيدة من عقائدهم، أو حمّلهم في أمور دنياهم ما لا يطيقون؟ ... بلى، إنه عاملهم في كل ذلك بما لم يطمع في معشاره الأقليات ولا الأكثريات من شعوب اليوم الواقعة تحت حكم الدول العالمة المتحضرة الخاطئة الكاذبة التي تزعم لنفسها الفضائل كلها ولا تتخلق بواحدة منها.

من أصول الإسلام أنه لا إكراه في الدين، وأين موضع هذا عند هذه الدول الباغية؟

ومن أصول الإسلام الوفاء بالعهد في السلم والحرب، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الطاغية؟ ومن أصول الإسلام أن لا يكلف من دخل في ذمته بالدفاع الحربي، وأين هذا مما تفعله هذه الدول الظالمة التي تجند المحكومين بالإكراه ليموتوا في سبيلها من دون جزاء ولا شكر؟ ومن أصول الإسلام أن لا يقتل في الحرب إلّا المقاتل، وأن لا يقتل الأعزل المعتزل والشيخ الكبير والمرأة والطفل والمنقطع للعبادة، وهذه الأصناف هي ثلثا الأمم المحاربة، فأين هذا مما ترتكبه الأمم المتمدنة في حروبها اليوم من الإبادة للكبير والصغير والمرأة والرجل والطفل والجنين، وما تتفنن فيه من وسائل الاستئصال؟ وكفى بواقعة "هيروشيما" اليابانية شاهدًا لا يكذب.

إن الإسلام يعامل المخالفين بالرحمة، لأن قرآنه هو دستور الرحمة، ويضعهم في أربع مراتب، لكل مرتبة حكمها العادل: الذمي المقيم في وطن الإسلام له كل ما للمسلم، وليس عليه كل ما على المسلم، فهو محمي النفس والمال والعرض، حر في التصرفات المالية، آمن في الظعن والإقامة، وليس عليه ما على المسلم من أعباء القتال والدفاع، والمستأمن آمن على حقوقه حتى يبلغ مأمنه، والمعاهد موفى له بعهده من غير ختر ولا غدر، والحربي يعامل

<<  <  ج: ص:  >  >>